IMLebanon

المسيحيون على وشك خسارة لبنان؟

كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:

ثمة خلل يتنامى في ركائز تكوين هذا «اللبنان» الذي أُنشئ قبل 100 عام. وإذا لم يتمّ تدارك هذا الخلل، فإنّه سيتسع بتأثير من زلازل الشرق الأوسط، ويهدّد بانهيار لبنان الحالي ليقوم على أنقاضه «لبنان» آخر أو «لبنانات» أخرى.

عندما أُنشئ لبنان الكبير في العام 1920، جاء الكيان الجديد متوازناً طائفياً، مع أرجحية طفيفة للمسيحيين. وكان لا بدّ من تجاذبات استغرقت نحو ربع قرن، ليعلن الموارنة والسنّة تسوية وطنية «سحرية» في العام 1943، وفيها تنازل الجميع للجميع، لمصلحة الجميع… حتى إشعار آخر.

يجب الاعتراف بأنّ تلك الثنائية همّشت الشيعة في القرار. في الشكل كما في المضمون. فظروف السنّة كانت أقل سوءاً من سواهم خلال عهد السلطنة العثمانية. وأُتيح لسكان المدن أن يكونوا في وضع اجتماعي أفضل نتيجة عملهم في التجارة والصناعة، فيما كان غالبية الشيعة أبناء البقاع وجبل عامل فلاحين فقراء. بل إن الكثير من الشيعة اعتبروا آنذاك أنّ الكيان الجديد سلّط جبل لبنان على جبل عامل، وميَّز سنّة المدن عن شيعة الأرياف.

خلال عهود ما بعد الاستقلال، حاول نظام 1943 تهدئة اعتراضات الشيعة بإشراكهم في القرار في شكل مطَّرد وتحسين أوضاعهم. لكن عوامل أخرى ساهمت في زعزعة الكيان وإحداث صدامات دموية حادة بين مكوناته، وأبرزها نشوء إسرائيل وتحوّل لبنان ساحة نزاع إقليمية.

واستفاد الشيعة، وما زالوا، من الدعم الإقليمي الذي يحصلون عليه من سوريا وإيران، ليثأروا من صيغة 1943. وفي المقابل، ينحسر تدريجاً نفوذ المسيحيين أولاً، والسنّة ثانياً. ومن الواضح أنّ هذا الخلل الطائفي والمذهبي، إذ يتمادى، سيقود إلى تغيير لبنان «القديم»، بل انهياره تماماً. وهذا ما يفسّر التحذيرات الفرنسية المتلاحقة من «زوال لبنان»، والاستنفار الفاتيكاني الذي تُعبّر عنه حالياً زيارة أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين.

هناك مأزق متعدّد الأوجه يعيشه المسيحيون اليوم في لبنان، ويهدّد بخسارتهم هذا الكيان، أو خسارته لهم. وعندما تقع هذه الخسارة، سيفقد لبنان هويته التاريخية المعروفة، وطابع التنوع الذي امتاز به في المشرق العربي، ويصبح صورة لنماذج عربية أخرى كان فيها للمسيحيبن حضور ودور فاعلان، قبل أن يضمحلوا بتأثير من عوامل كثيرة.

الخسائر الاستراتيجية التي تصيب المسيحيين في لبنان اليوم يمكن ترتيبها كالآتي:

1- الخسارة الديموغرافية. ففي لوائح الشطب لانتخابات 2022، قارب الناخبون في لبنان الـ 4 ملايين، 65.4% منهم مسلمون و 34.4% مسيحيون، أي ما نسبته الثلثان مقابل الثلث. وتراجُع المسيحيين من نسبة النصف إلى نسبة الثلث يلوّح بها العديد من قادة المسلمين «عند الحاجة» ليذكّروهم بأنّهم لم يعودوا يستحقون المناصفة في الشراكة والقرار، وأنّ عليهم في أحسن الأحوال أن يرتضوا ظرفياً بالمناصفة الشكلية في المؤسسات، أي بأن يبقى صاحب المقعد مسيحياً على أن يكون تعيينه وقراراته في أيدي الآخرين. وهذا النوع من المناصفة يمكن اعتباره مزوراً ولا قيمة فعلية له. وهذا الانحسار الديموغرافي المسيحي، الذي تعززه الهجرة الكثيفة، خصوصاً في صفوف الطلاب والكفايات المهنية والعلمية والفنية، ويرسّخه تدفق النازحين السوريين والفلسطينيين، ينذر بانزلاق المسيحيين إلى نسب سكانية أدنى، وسيؤدي إلى فقدانهم أي حجة للمطالبة بالشراكة الفاعلة، في الصيغة التي بُنيت أساساً على مناصفة طائفية دقيقة.

2- استمرار الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية إلى أجل غير محدّد، يعني استمرار إدارة لبنان في غياب الشريك المسيحي في النظام. وبمرور الوقت، اعتاد الجميع هذا الفراغ، وهم يقومون بتسيير شؤون البلد «طبيعياً»، من دون رئيس للجمهورية. وهذا الملف بات اليوم في آخر سلّم الاهتمامات داخلياً وخارجياً.

3- خسر المسيحيون الكثير من طاقاتهم الاقتصادية، خصوصاً بعد انهيار 2019. فهم يمتلكون الجزء الأكبر من القطاع المصرفي والاستثمارات في مجالات التجارة والصناعة والخدمات، وكلها أُصيبت بأضرار فادحة خلال الأزمة.

4- لم يعد للمسيحيين تنظيمهم المسلح الخاص، كما حال الشيعة الذين يديرون بأنفسهم شؤون الأمن في أجزاء واسعة من الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية. والدليل إلى كون السلاح عامل قوة أساسي، في يد أي طرف، هو أنّ الشيعة وحدهم يتخذون اليوم قرار الحرب أو السلم، ويفاوضون القوى الإقليمية والدولية ويبرمون معها الاتفاقات فعلاً، فيما الدولة اللبنانية تقوم بالتنفيذ شكلاً. وأما الطوائف الأخرى فما عليها سوى انتظار النتائج.

هذا الواقع يقود تدريجاً إلى خسارة المسيحيين لدورهم تماماً، بل إنّهم سيخسرون لبنان «القديم»، وهذا اللبنان سيخسرهم أيضاً. أي، نتيجة لهذا الخلل، سيتغيّر المسيحيون ومعهم سيتغيّر لبنان 1920 و1943. وهذا الخلل الهيكلي لن يشفع به لا الترقيع بطائف آخر ولا تقطيع الوقت بدوحة جديدة. والمأزق الذي سيواجهه الجميع هو: ماذا في اليوم التالي لسقوط هذا اللبنان؟