كتب نقولا ناصيف في “الاخبار”:
يتابع اللبنانيون الانتخابات الرئاسية الأميركية والاشتراعية الفرنسية بعيون استحقاقهم الرئاسي المؤجّل. تلك مقيّدة بمهل وآجال دستورية تنتهي عندها تبعاً لآليات إجرائها، فيما انتخاب الرئيس في لبنان يحتاج مرة بعد أخرى وأشهراً تلو أشهر، إلى معجزة. مع ذلك ثمة ما يتشابه قليلاً أو كثيراً.
يتعزّى اللبنانيون بأنهم لم يعودوا وحدهم في مآزق دستورية وأزمات حكم ونظام وفرص فوضى. في الدول العظمى ما يماثل أو يكاد، يتضاءل أو يستفحل، إلا أنه محتمل ومحسوب. على وفرة اختلاف تجاربها إلا أنها تدور من حول رأس النظام: الرئيس الذي يحكم أو لا يحكم، وكيف له أن يفعل محوطاً بالانقسامات والتحالفات والخصومات والأكثريات والأقليات. الفارق البسيط، لكنه الجوهري، أن النظام في الدول تلك قادر على حلها لا على ضمان استمرار المأزق.الدولتان الكبريان المهتمتان بالأزمة الدستورية اللبنانية، الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، في العناية الفائقة المؤقتة إلى أن تتجاوزا محنتيْهما الدستوريتين: الرئاسية عند الأولى، والاشتراعية عند الثانية. في جانب يمكن اعتماد القياس الجزئي فيه، أن ما تعانيه الدولتان الكبريان هو إما انقسامهما بين حزبين كبيرين أحدهما سيصل إلى الحكم حتماً، أو تضعضع كتل حائرة بين انقسامات مماثلة في اليمين المعتدل واليمين المتطرف واليسار المعتدل واليسار المتطرف والوسط الموصوف أنه على صورة بيضة القبان ينتظر الوقت المناسب لتغليب الكفة لئلا يكون أول الخاسرين. إلا أن الدولتين الكبريين تحسمان في نهاية المطاف النزاع بالآلية الدستورية. هو أيضاً الانقسام اللبناني بين كتلتين صارتا أقرب إلى حزبيْن باتت خلافاتهما أكبر من البلد الصغير على استيعاب تناقضاتهما، فأعطبتا آلياته الدستورية.
في الواقع صار في وسع اللبنانيين أن يتعزّوا بأن ما راحت واشنطن وباريس في الآونة الأخيرة، عبر الموفدين الرئاسيين عاموس هوكشتين وجان إيف لودريان، تحذران اللبنانيين منه وهو أن ساعاتهم حرجة وصعبة، ما يقتضي استعجال انتخابهم رئيساً لهم، في وسعهم أن يعيدوا ترداده عليهما.
بينما المشكلة الصعبة في الانتخابات الرئاسية الأميركية باتت تكمن في المرشحيْن لا في الحزبيْن اللذين يقودان معركة الوصول إلى البيت الأبيض، مرة بالقول إنهما متقدّمان في السن أو بوصف أحدهما بالتهور والجنون والآخر بالعجز والخذلان، تقترب أكثر المشكلة الصعبة في الانتخابات الاشتراعية الفرنسية من لبنان بطرح السؤال عمّن سيحوز الأكثرية المطلقة المقرِّرة مساء الأحد في قصر بوربون؟ كل ما يُنتظر حتى غد الأحد، موعد الدورة الثانية، سبل الحؤول دون وصول التجمع الوطني المتشدد إلى غالبية 289 نائباً في الجمعية الوطنية لتفادي توليه رئاسة الحكومة في السنوات الثلاث المتبقية في ولاية الرئيس إيمانويل ماكرون. ما يقال الآن، عشية الأحد، بأن وصوله إلى رئاسة الحكومة، ومن ثم تأليفه إياها، يضعان الجمهورية الخامسة أمام رابعة مساكناتها في العقود الأربعة الأخيرة على أنها لا تشبه أياً من الثلاث التي سبقتها بين أحزاب متناقضة، إلا أن القاسم المشترك بينها توافقها على السياسة الخارجية وموقع فرنسا في قيادة أوروبا: الرئيس فرنسوا ميتران مع جاك شيراك بين عامي 1986 و1988 ومع إدوار بالادور بين عامي 1993 و1995، والرئيس جاك شيراك مع ليونيل جوسبان بين عامي 1997 و2002.
تجربة باريس في المساكنة حملتها في مراحل الشغور الرئاسي اللبناني على اقتراح تعميمها كما لو أنها المرة الأولى في لبنان، بتقدّمها بتسوية تقرن انتخاب رئيس تيار المردة سليمان فرنجية بتسمية السفير السابق نواف سلام رئيساً للحكومة، على نحو يتوازن فيه طرفا النزاع داخل السلطة الإجرائية اللبنانية، هو في الواقع ما لا تريد هي بالذات العودة إليه بعد الأحد المقبل. منذ اتفاق الطائف، مع سوريا على أرض لبنان وبعد جلائها، حكومات عدة تعاقبت أقرب ما كانت إلى مساكنات مرغمة بين رئيسَي الجمهورية والحكومة فرضتها وقائع توازن القوى على الأرض ما لبثت أن انهارت وجرجرت انهيارات: الرئيسان سليم الحص وعمر كرامي مع الرئيس الياس هراوي، والرؤساء رفيق الحريري ونجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة مع الرئيس إميل لحود، وميقاتي مع الرئيس ميشال عون.
على صورة مطابقة للمعضلة الفرنسية الحالية، يتواصل الشغور الرئاسي في لبنان بفارق أساسي يجعله أطول عمراً، مرده إلى البحث عن الحل في موازين القوى الداخلية وتقلب التوازنات الإقليمية لا في الاحتكام إلى الآليات الدستورية لانتخاب الرئيس. وعلى نحو الخشية من وصول التجمع الوطني إلى الغالبية المطلقة الذي هو النصف زائداً واحداً يقود فرنسا من ضفة إلى أخرى، يمثّل الثلثان العقبة الفعلية التي لا تزال تحول إلى الآن دون تمكن أي من فريقَي الانقسام اللبناني، الثنائي الشيعي وحلفائه والثنائي المسيحي وحلفائه، من فرض مرشحه على الآخر لتعذّر امتلاك أي منهما النصاب الموصوف لانعقاد جلسة الانتخاب. الصورة المعطاة عن التجمع الوطني المتطرف أنه مصدر قلق على مستقبل فرنسا بتقدّمه إلى صدارة الحكم جنباً إلى جنب مع رئيس فقد الغالبية النيابية ويتعذّر عليه قبل سنة إعادة حل الجمعية الوطنية مستسلماً لتقاسم إدارة البلاد، هي نفسها معطاة عن مغزى انتخاب فرنجية رئيساً للجمهورية على أنه واجهة مرحلة جديدة وليس مجرد رئيس منتخب. تالياً، تبعاً للمخاوف التي تفصح عنها المعارضة المسيحية، ليس انتخابه إلا تعبيراً عن إحكام حزب الله قبضته على الدولة اللبنانية العميقة برمّتها هذه المرة. شأن ما تمثّله مرجعية مارين لوبن للرئيس المفترض للحكومة جوردان بارديلا ـ إذا وصل ـ على أن الخطوة التالية عام 2027 محاولة الوصول مجدداً إلى رئاسة فرنسا، ستكون عليه مرجعية حزب الله في رئاسة فرنجية.