كتب محمد وهبة في “الأخبار”:
في 18/1/2023 أصدر مجلس الوزراء المرسوم 10960، الذي يحيل إلى مجلس النواب مشروع قانون تجديد عقد اتفاق بيع زيت الفيول بنحو مليون طن بين العراق ولبنان لغاية نهاية تشرين الثاني. وبعدها بأشهر صدر المرسوم 12238 الذي يحيل إلى مجلس النواب مذكرة تفاهم لتجهيز وتجديد العقد من 1/11/2023 لغاية 31/10/2024. طوال هذا الوقت، كان الملف نائماً في مجلس النواب ولم يُعرض في أيٍّ من جلسات المجلس، سواء تلك التي تعقدها اللجان المشتركة أو الجلسة العامة… وبنتيجة هذا الإهمال الفاضح، لا يمكن لمصرف لبنان أن يسدّد عن مؤسسة كهرباء لبنان مبلغ 164.7 مليون دولار من المتأخرات المتراكمة والمستحقة الدفع للعراق بموجب هذا العقد، لأنه غير مبرم في مجلس النواب. والعراق سبق أن منح لبنان استثناءات بالجملة لشحنات سابقة استحقت وجرى توريدها من ضمان التسديد. إذاً، أين كان مجلس النواب منذ 18/1/2023؟ لبنان على بُعد ساعات من العتمة بسبب تناقص مخزون الوقود لتشغيل المعامل. أما الشحنات التي استوردها لبنان في سياق تعزيز المخزون بموجب الاتفاق مع العراق، فلا يمكن تفريغها لأن لبنان لم يسدّد ثمنها. هكذا ترسو الآن سفينتان محمّلتان بالغاز أويل على الشاطئ اللبناني في انتظار أن تسمح لها الجهات المعنية في العراق بتفريغ حمولتها، وفي السياق نفسه ينتظر لبنان «إعفاءً» عراقياً رسمياً يمنحه القدرة على التهرّب من تسديد الثمن ومراكمته في لائحة المتأخرات لمرة إضافية.
الاعتياد اللبناني على هذا النمط من التسوّل مذهل. كل ما كان يتطلّبه الأمر لتجنّب أن يصبح مسار التسوّل إجبارياً، هو أن يقرّ مجلس النواب الاتفاق الموقّع مع العراق وأن يدفع لبنان ثمن الشحنات عند استحقاقها المتفق عليها، أي بعد ستة أشهر من تسلّم الشحنة. فبمجرد صدور قانون من مجلس النواب يصبح الاتفاق مبرماً وقانونياً، وعندها لا يمكن لمصرف لبنان إلا أن يدفع ثمن الشحنات المتراكمة. لكن منذ أكثر من سنة ونصف سنة، ينام الملف في أدراج هيئة المكتب. رئاسة مجلس النواب لا تريد لهذا العقد أن يصبح شرعياً وقانونياً من دون أسباب واضحة أو معلنة. والآن المطلوب تزخيم مسار التسوّل وتدعيمه باتصالات من هنا وهناك حتى تظهر بطولات وهمية لهذه الشخصية السياسية أو لتلك.
ويرتبط هذا المسار بـ«التلاعب» بحاجات الناس واستغلالها في سياق الصراع السياسي المحلّي. في فترة ما قبل الانهيار، كان قطاع إنتاج الطاقة محور صراع يتعلق بتقاسم المغانم والأرباح الهائلة بواسطة الخصخصة، من تلزيم المعامل الثابتة لزيادة القدرة الإنتاجية، إلى تمرير المرحلة الانتقالية بواسطة معامل مؤقتة (بواخر عائمة أو معامل على اليابسة)… إلا أن الأمر انتهى بعد الأزمة بأن لبنان يناقش قدرته على شراء الوقود لتشغيل المعامل القائمة، رغم تدنّي قدرتها الإنتاجية.
التحوّل في محور الصراع من «السيطرة على الإنتاج» إلى «السيطرة على التشغيل»، خلق تغييراً جذرياً في نمط الإدارة التي ركّزت على استيراد الوقود لتشغيل المعامل عبر اتفاقات دولية. اصطدمت هذه المحاولة بالنفوذ الأميركي، فلم تتمكن مصر من توريد الغاز الطبيعي إلى سوريا ومنها إلى معامل لبنان، ولم تتمكن الأردن من توريد الكهرباء بواسطة الشبكة العربية. وفي هذا السياق، ولدت الاتفاقية مع العراق التي وقّعت للمرّة الأولى في أيلول 2021 لغاية تشرين الثاني 2022 بقيمة 531 مليون دولار. وأبرم مجلس النواب اللبناني هذه الاتفاقية في 12/11/2021 بالقانون الرقم 246، أي أنه أسبغ عليها شرعية دستورية وقانونية، وبالتالي لا يمكن لأيّ جهة أن تقدّم أيّ ذريعة للامتناع عن تنفيذ اتفاقية مبرمة.
واكبت قوى السلطة المحلية هذا التغيّر في محور الصراع، بتغيرات محلية، على قياسها. فعندما ظهر وليد فياض كأنه بطل تمكن من الاتفاق مع العراق بعد معركة قاسية مع الأميركيين للحصول على براءة ذمة تجاه استيراد الغاز المصري والكهرباء الأردنية، وبدا أن التغذية بالكهرباء، بفعل الاتفاق العراقي، سترتفع إلى خمس ساعات يومياً، وبدأت الرغبة في «البطولة» تنتاب طرفاً أساسياً في الصراع المحلي على الطاقة. وهذا الطرف لديه القدرة على عرض أو منع الاتفاقية على مجلس النواب. فعندما انتهت مدّة العقد الأول واتفق على تجديده من كانون الأول 2022 لغاية تشرين الثاني 2023 بقيمة 460 مليون دولار، لم يصدر أي قانون عن مجلس النواب لإسباغ الشرعية على الاتفاق المجدّد. واللافت أن القوى السياسية واصلت العمل نحو تجديد الاتفاقية للمرّة الثانية من تشرين الثاني 2023 لغاية تشرين الأول 2024، وتم توسيع قيمة العقد إلى 700 مليون دولار، ولم يُعرَض التجديد على مجلس النواب لإبرامه!
164 مليون دولار استحقّت على لبنان وتراكمت ثمناً لشحنات فيول من العراق
في الواقع لا سبب يحول دون ذلك، بل إن إبرام العقد واجب على مجلس النواب الذي يفترض أن يناقش العقد ويدرسه، ثم يقول إنه عقد مناسب وفيه مصلحة عليا وعامة، أو أنه لا يناسب لبنان وليس فيه مصلحة عليا أو عامة. بدلاً من ذلك، نام الملف في أدراج المجلس، ثم بدأ التقاذف بين وزير الطاقة وليد فياض وحاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، وبدا كأن المشكلة تتعلق بامتناع منصوري عن الدفع لأنه لا يملك الدولارات، بينما الأخير يدفع عن الدولة فواتير أخرى بالعملة الأجنبية. مجموع ما يدفعه مصرف لبنان شهرياً عن الدولة يتجاوز 200 مليون دولار، نصفها رواتب وأجور العاملين في القطاع العام ونصفها الآخر فواتير متنوعّة.
ومنصوري كان قد أعلن أنه لن يدفع فواتير غير قانونية، أو ليس لها سند قانوني. ويقول منصوري إنه رغم أن تسديد فاتورة الكهرباء، لو كانت قانونية، سيكون كبيراً، إلا أنه سيحترم هذا الأمر ويتدبّر أمره للتسديد، لكن الواقع ليس كذلك. في المقابل، يدرك فياض أن المسألة لا تتعلق بوجود أموال في حساب المؤسسة، لكنه يشير إلى أن منصوري أجرى استثناءً في مرّة سابقة ودفع فاتورة واحدة من العقد المجدد للمرة الثانية من دون سند قانوني. لكن فياض، بواقعية كاملة، يعلم من وسطاء بينه وبين العراقيين أن جوهر المسألة «نكاية» سياسية تتعلق بارتباطات بين قوى سياسية في لبنان والعراق.