(الى شهداء جريمة المرفأ)
بقلم: الدكتور جورج شبلي
على بقايا الوترِ الدّامي، في لبنان، بقايا دموعٍ وحَشرَجَة، وكأنّ الوطنَ في مناخِ نَدب، يَسمعُ، في عبِّ الكآبةِ دبيبَ الموت، وهمسَ الجماجم، من دون أن يلمحَ إيماءةَ خلاص… وهذا السَّئِمُ من وَهمِ الأمل، والمؤمنُ بالخروج من التّراب نحو السّماء، لم يبقَ له من النُّطقِ إلّا : حنانَكِ يا سماء.
في مرفأ بيروت، تفيقُ أجفانُ الجماجم، وسطَ حفيفِ العظام، وصدى الأبدية، لتملأ الزّمنَ بأنفاسها الملتهبة، زفرةً زفرة، مُنعتِقَةً من العَدَم الذي أرادوه لها، ترتجي حقيقةً مستَتِرة، بحروفٍ ناريّةٍ وإِنْ مجبولة بالرّماد. لم يخطرْ في بالِ شهداءِ جريمة المرفأ، ولا أقول ضحاياها، أن يكون موتُهم على علاقةٍ بالنّار، ولم يخطرْ ببالهم، أيضاً، أنّ موتَهم بالنّار، في عمقِهِ، وسموِّهِ، قد يُصبحُ رمزَ الافتداءِ الجديد، وأُشغولةَ وجدانِنا، ولن يُمحى رمزُهُ، أبداً، من بالِ لبنان.
في تُرَّهاتِ الذين ينتحلون صفةَ المسؤولين، وهم أقزام، وفي طقوسِ كَذِبِ المُتزعِّمين، وهم جلّادون، رِياءٌ استَمسَكَت آذانُنا عن سَماعِه، فبينَ أصحابِهِ وبين الصِّدقِ هَجر. إنّ المأساةَ التي سحقَت الوطن المُدَمّى، من جريمةٍ هي باطلٌ من أباطيل الدّنيا، لم تَمَسّ، في شعورِ أولئكَ، ذَرَّة، وأكّدَت مواقفُهم، لنا، أنّهم ليسوا، في تربةِ لبنان، سوى شَوكٍ وسُمّ. فعسى أن يطلَّ الزّمنُ عليهم بيومِه الأسوَد، ويشربوا الكَدَر، ويعبِّروا عن جريمتهم البَشِعة، بوساطةِ اللّحمِ والدّمِ والرّوح.
إنّ طريقَ الألامِ في داخلِ كلٍّ مِنّا، ولا سيّما الذين فقدوا أعزّاء، تتقدّمُ مسيرتُها في أسًى وحسرة، ملوَّنةً بالحنينِ العميق الى مَنْ رحلوا، وبعَطَشِ انتظارِ جلاءِ حقيقةِ الجريمة، مُرتَكِبين، وأسباباً، ومُجرَيات، ونتائج… ونحنُ في حال التمزّق، والجِراح، والعذاب، فكأنّنا في الرّبعِ الخالي، لكنّنا لسنا، أبداً، في زمنِ الصَّمت، والقَبول، والإذعان، فيقظتُنا دائمة، ومتابعتُنا محتَّمة، وكفاحُنا له ضجيجٌ صاخِب، لا ضُحولةَ فيه، ولا تَراجُع، لأنه تَحوَّلَ الى رسالةٍ أخلاقيّة ووطنيّة هادفة، منعتقةٍ من الخوف، طينتُها نضال، ونَفَسُها مواجهة، وجوهرُها حقّ.
لقد قتلَ الأردياءُ أبناءً لنا، وإخوةً، وأصدقاءَ، ورِفاقاً، فوق أرضِ المرفأ، والتي اصطبغَت بدمائهم، والتصقَ لَحمُهم بها، لكنّها انتصبَت، في وجهِ المجرمين، جريئةً تقول لهم : إنّ عالَمَ الخذلانِ ليس عالَمي، وإنّ زمانَ الارتعابِ ليس زماني… إِعلَموا بأنّ حالَ التحدّي هي حالي، وقهرَ ترهيبكم هو هدفي، وانهزامَ افتعالِكم العقبات، مهما عَنُفَت، هو دأبي، أيّاً تَكُنِ التّضحيات.
إعلموا أيّها المُدَّعون بأنكم قابِضون على زمام الأمنِ والقضاء، في بلدنا المقموع، وذَنبُكم، يا بَطانةَ السّوء، هو من الذّنوب الكبيرة، بأنّنا لن نسطّحَ رقابَنا تحت شِفار مقاصلِ كذِبكم، وتورية مسؤوليّتكم عن جريمة العصر، وتزييفِ الوقائعِ التي باتَت موثَّقةً وجليّة، فلا تستخفّوا بقدراتنا على كَبحِ استباحتكم حرمةَ الشهادة، وعلى فَضحِ تزويرِكم الحقيقة بنقيضِها، لقد أَفلسَ مَيلُكم المُفرط الى ادّعاء النّزاهة، فلستُم سوى وباءٍ وطنيٍّ ينبغي استئصالُه، ويجبُ صَدُّ أخطبوطيّتكم المافياوية المُراوغة التي مدَّت السّلاسلَ حول عُنقِ البلادِ التي ساقَها انحطاطُكم القبيحُ الى جهنّم.
أيّها المُشَوَّهون المُزَوَّرون، نحن نرفضُ أن تجعلونا نتجوّلَ في كَفنٍ ينزفُ وطناً، وأن تصبح جريمة المرفأ، التي ارتكبتم، مجرّد ذكرى، لقد آنَ الأوان لتأسيسِ انقلابٍ ينشطُ الى إِعمالِ موازين العدلِ والحقّ، للاقتصاصِ منكم، لئلّا يستدعي مشهدُ قُبورِ شهداء المرفأ، مشهدَ قُبورٍ آخر.