IMLebanon

فصل في أهميّة الوجود المسيحي الكياني

بقلم الدكتور جورج شبلي

مقدّمة مَسلوخة من التاريخ، وتستمرُّ فُصولاً في حاضرِنا:

من الواضحِ الجَليّ أنّ مسلسلَ إبادةِ مسيحيّي الشّرق، على وجه الخصوص، يتتابعُ بانتظامٍ، ومن جانب المتطرّفين الذين لم نَجِدْ أصحابَ الشّأنِ في مذاهبِهم وإثنيّاتِهم يتّخذون مواقفَ صارمةً من هذه الظاهرة الخطيرة. وهؤلاءِ المتطرِّفون لم يعد يهمُّهم التَّماسُ مع سواهم مِمَّن يعتنقون معتقداتٍ مختلفة، بحُكمِ عواملَ مختلفة، منها الديموغرافيا، أو بدافعِ التعصّب الأرعن، أو غريزة القتل التي كانت في أساس المجتمعاتِ البدائية، أو الاستقواء بسلاحٍ مشبوهٍ وغيرِ شرعيّ، أو تنفيذاً لأوامرِ مرجعيّاتٍ لا يهمُّها إلّا استثمار المتطرِّفين، لمصالحَ معروفة…

حيثيّة البحث:

مع فائقِ الأسفِ، وفائضِ الألمِ على الضّحايا والشّهداءِ الذين مزّقتهم أنيابُ الحقد، والتي صفعَت، بإرتكاباتِها الإرهابيةِ، صفاءَ الإنسانية، ولمّا تَزَلْ، والتي لم تُواجَهْ بوِقفةٍ لاذعةٍ ورادعةٍ من العالَم المُتَحَضِّرِ، ينبغي، لي، أن أُتوجّهَ الى الذين لا يَعرفونَ المسيحيّةَ، ولم يُعايِشوا أَتباعَها، وكذلك، الى الذين يُشيحون بوجهِهم عَمّا يُقاسيه هؤلاء من تدنيسٍ مَشهود، بهذه الرسالة الموضوعية عن طبيعةِ المسيحيّين في الشّرق، ولا سيّما في لبنان، وهم الذين يَشهدون، ويُستشهَدون للحقِّ، والحريّةِ والسّلامِ، والكرامةِ الإنسانيةِ، عنهم وعن غيرِهم، سواءً بِسَواء.

إشكاليّةٌ نسبيّة:

بعدَ تَراجُعِ منسوبِ الإندماجِ بين شرائحِ النّسيجِ المُسَمّى وطنيّاً، وبعدَ تفاقُمِ نسبةِ المَشحونين بالعزفِ على الوترِ الطّائفيّ، والمذهبيّ، وبعدَ انفضاحِ مؤامرةِ السيطرةِ على الوطن، بالاستقواء، وبِدَعمٍ من خارجٍ معروف، هل يبقى دَورٌ لمسيحيّي لبنان للتمتُّعِ بمواطنيّتِهم، وهي قضيةُ التِزامٍ لا قضيّةَ امتياز، فهم عِرقٌ من عروقِ الوطنِ، وليسوا عِبئاً عليه، أو طارِئين؟

أدلَّة قاطعة:

– إنّ أقدمَ الكارِزين بالإنجيلِ أساسِ الدّعوةِ الى المحبّةِ وقَبولِ الآخر، هم مسيحيّو الشرق، وفي مقدّمِهم مسيحيّو لبنان المتجذِّرون في الأرضِ التي نَمَت فوقَها الكنيسةُ الأولى. ولطالما كان وجودُهم، في مُقابلِ ثيوقراطيّين غيرِهم، شاهداً على الفداء، تَشَبُّهاً بمسيحِهم فادي الخليقة، والفداءُ هو أَبلَغُ ثمنٍ يُمكنُ أن يدفعَه شعبٌ يؤمنُ باللهِ، ويتَمَثَّلٌ بابنِه. أمّا الهدفُ من حضورِهم في هذا الشّرق، فهو تأديةُ دَورٍ حضاريٍّ تَمَدُّنيٍّ مِحوَريّ، يُسهمُ في صياغةِ حالةٍ ائتلافيّةٍ إثنيّة، في غمرةِ المراحلِ التَّغييريةِ، والتشرذميّةِ التي  عصفَت بالمنطقة، ولمّا تَزَلْ، وفي مُقدّمِها مراحلُ التطرّفِ الهَمَجيِّ الذي طوَّقَ هذا الأوقيانوس المُتَضَعضع، ولمّا يزلْ.

– إنّ المسيحيّين في لبنان الذين تَمسّكوا بهويّتِهم الثقافيّة، أصرّوا على إبرازِ موقفٍ داعمٍ، دوماً، للهويّةِ الوطنيّةِ الجامعة، انتماءً وولاءً، على عكسِ ما حاولَ البعضُ ترويجَه عن انعزاليّةٍ مسيحيّةٍ، وتَقَوقعٍ مذهبيّ. فالمسيحيّون هم أكثرُ الشرائحِ قدرةً على الإندماجِ، والعيشِ المُشترَكِ مع غيرِهم من المُكوّناتِ الدّينيةِ، والثُقافيةِ، والحضاريّة، بالرَّغمِ من التحدّياتِ المتعاقبةِ، ومُخطّطاتِ التّذويبِ، واستبداديّةِ الوصايات، ومؤامراتٍ متعاقبةٍ تستقصدُ وجودَهم، وتسعى الى إحكامِ قبضتِها على مصيرِهم، بهدفِ تفريغِ الوطنِ منهم الى دُوَلِ الشّتات.

– لقد كان للمسيحيّين الهِمّةُ الفاعلةُ لبناءِ كيانٍ سياسيّ، في لبنان، لم يَفتتحوه مسيحيّاً إقصائيّاً، بِقَدرِ ما صاغوهُ نموذجاً لِعيشٍ فريدٍ يُسقِطُ النماذجَ العنصريّةَ، والأحاديّةَ العِرق. وهكذا، وعلى خُطى السّريانِ، والأشوريّين، والأَقباط، أسَّسَ مسيحيّو لبنان لديمقراطيّةٍ عملَت على أن تَكفلَ الحريّاتِ، وحقوقَ الناسِ، لكلِّ الناس. لكنّ هذه الحريّاتِ والحقوق، لم تتجذَّرْ في الكيانِ الوطنيّ، إلّا بعدَ أن افتداها المسيحيّونَ، ولا يزالون، بشلاّلٍ من الرِّجال، ليبقى للكرامةِ في لبنانَ مَوطِئ. وهذا ليسَ غريباً عن قناعاتِهم المسيحيّةِ التي لم يَحيدوا عنها، وعن شهادتِهم لفلسفةِ الصّليب، وعن نضالِهم للدفاعِ عن وجودِهم ليكونَ أكثرَ أماناً، وثَباتاً، بينَ أكثريّاتٍ، راودَ بعضَ مَهووسيها الحلُّ القمعيَّ الذي لم يُنتِجْ لدى المسيحيّين، سوى اندلاعِ روحِ العنفوانِ الجهاديّةِ الإلزاميّةِ، من أجلِ البقاء، وهو بقاءٌ لصالحِ الجميع.

– لقد آمن المسيحيّون، في لبنان، بالنّسيجِ الإنسانيّ، بعيداً عن ذهنيّةِ الفَوارقِ المذهبيّةِ التي تشبَّثَ بها كثيرون غيرُهم، وفرضوها أساساً للطبقيّةِ العنصريّة، ما أدّى الى احترابٍ مَقيت، والى مواجهاتٍ عقيمة، في حين اعتبرَها المسيحيّونَ الديمقراطيّون، قيمةً مُضافة، شَكّلوا بها التركيبةَ المُعجزة في لبنان، على مَرِّ العُقود. فالمذاهبُ، بِحَسبِ المسيحيّين، تُرسِّخُ التعدّديةَ، وتَجمعُ بين القواسِم، وتُحضِّرُ لنهضةٍ مُنتِجَةٍ على أنقاضِ انحطاطِ البروتوتيبيّاتِ والنَمَطيّة. من هنا، يرفضُ المسيحيّون مَقولةَ اعتبارِهم أقليّةً عِرقيّةً في نسيجٍ أكثريٍّ مُغاير، فهذه محاولةٌ سافرةٌ  لتَقويضِ فرصةِ التَّعايشِ الأهليّ، والشراكةِ في الوطن، وحتى في المصيرِ القوميّ، لأنّ المسيحيّين لطالما رفضوا اعتبارَ أنّ لبنانَ جزيرةٌ معزولةٌ عن محيطِه.

–  أمّا الخللُ، فيَكمنُ في عدمِ وجودِ مُقاربةٍ موضوعيّةٍ واحدةٍ للشِّركةِ في الوطن. وقد قدَّمَ المسيحيّون خطّةً لإزالةِ هذا الخَلَلِ، قوامُها المزيدُ من الإنفتاحِ، والإعترافِ بالحقوق، وتَبَنّي مقاربةٍ واحدةٍ لخلاصِ لبنانَ من أزماتِه، الدّاخليّةِ والإقليميّة، باعتمادِ مبدأِ الحيادِ، ودعمِ مشروعِ قيامِ الدولةِ القادرة، والسيّدةِ على كاملِ التّرابِ الوطنيِّ بمؤازرةٍ من أُمَمِ العالَم. من هنا، ينبغي علينا، أن نُسرِعَ في هَدمِ المفهومِ المُلتوي للطائفيّة، أو ما يُعرَفُ بالأنا الطائفية، ونعودَ الى الإلتزامِ التامِ بالثّابِتَينِ الوطنيَّين، أي الإنتماء والولاء، حتى التّماهي الكُلّي بالكيانِ النهائيِّ لبلادِنا المقدَّسة.

– ولمّا كانت سُنّةُ العلاقةِ بينَ الإنسانِ والإنسان، مُرتكِزَةً على أساسٍ واحدٍ هو حِفظُ حقِّ الكرامةِ الإنسانيّة، في وطنٍ يَدينُ به الجميع، كان من حقِّ هذا الوطن، وحقِّ المؤمنين به، وفي طليعتِهم المسيحيّون، المُطالبةُ بعدمِ تحويلِ أزمنةِ لبنانَ وناسِهِ الى عُصورِ ظلام، وذلك، بِبَثِّ الخُطابِ التَّكفيريِّ المُعَمِّقِ لِهوّةِ القلق، والذي يُجهِضُ مسيرةَ العيشِ المُتكافِل، ويغتالُ مشروعَ حوارِ الوطنِ مع الوطن. إنّها دعوةٌ مسيحيّةٌ ينبغي التَرَصُّدُ لها، لأنّها تَستندُ الى مُسلّماتٍ إنسانيّةٍ، ووطنيّةٍ، قوامُها الإعترافُ بالآخرِ، واحترامُ رأيِه، وإعلاءُ رايةِ العدالةِ، والحقّ، وتبديلُ حال الوطنِ من الأُفولِ الى الاستمرار.

إنّ الحضورَ المسيحيَّ في لبنان، منذُ كانوا وحتى السّاعة، هو حضورٌ فاعلٌ، ومُنفتِحٌ، ومُنخرطٌ في هَمِّ مجتمعِهِ الوطنيّ، ومُدافِعٌ عن الكيانِ والهويّة والدَّور، وليسَ، أبداً، وجوداً تراكُميّاً، وبالتالي، هو حضورٌ ضروريُّ ومُلزِم. لذلك، فمن واجبِ الشّركاءِ في الوطن، وقبلَ فَواتِ الأوان، أن يبادِروا الى التّلاقي مع المسيحيّين، لِلَمِّ الشّمل، ولفتحِ كُوّةِ العبورِ الى الحريّةِ، والديمقراطيّةِ، والحقِّ بالعيشِ الكريمِ والمُتساوي، ولرفضِ الخَلطِ بين الولاءِ للبنانَ وبين الولاءاتِ الرّديفةِ البديلةِ، المُدَمِّرة…

هلُمّوا، يداً بِيَد، لِتَسطيرِ سِفرِ خلاصِ لبنان… وإلّا !!!