كتب منير الربيع في “المدن”:
استحالت محطّة التمديد لقوات الطوارئ الدولية العاملة في الجنوب “اليونيفيل” فرصة سنوية لجدل بيزنطي عابر للعواصم. يمتد السجال والجدل بين دول متعددة، تطال شظاياه بيروت التي لا تفرغ من السجالات السياسية والعسكرية، وخصوصاً عند كل مفصل أو استحقاق، كما هو الحال اليوم بشأن الجبهة المفتوحة في الجنوب، بلا توفّر أي ملامح حول موعد إغلاقها أو كيفية نهايتها. منذ إقرار مجلس الأمن الدولي للقرار 1701 في العام 2006 إلى الآن في 2024، لم يمرّ عام من دون خلاف وسجالات حول إدخال تعديلات على دور هذه القوات الدولية، بين اقتراحات لتوسيع صلاحياتها وتعزيزها، مقابل اعتراضات على استمرار دورها، باعتبار أنها لا تؤدي ما هو مطلوب منها، ليعود التجديد ويقّر بشكل تقني.
لكن عملياً، ما بعد أحداث 7 تشرين الأول، فإن الزمن بوقائعه وأحداثه وتطوراته قد تجاوز كل ما له علاقة بالآليات القديمة المرتبطة بوضع جنوب لبنان وبالاستقرار الذي شهده ما بين 2006 و2023. علماً أن ذاك الاستقرار كان عبارة عن اتفاق سياسي وغير ناتج عن وضع تقني أو حلّ نهائي. وبالتالي، أي عودة إلى تكريس الاستقرار لا بد لها أن تعبر من ممرّ سياسي يجوب عواصم كثيرة، تقدّم ما لديها من ضمانات لتحقيق ذلك. ولكن ما يظهره الإسرائيليون المستندون على دعم دولي في غزة، والضفة الغربية وجنوب لبنان، أنهم لا يريدون العودة إلى ما قبل 7 تشرين الأول. وأن هناك “فوبيا” في إسرائيل من احتمالية العودة إلى الواقع السابق. وما يُنقل من رسائل دولية للبنانيين، بأنه يستحيل على إسرائيل أن توافق على العودة إلى 6 تشرين، وأنه لا بد من الوصول إلى تغيير جدي في القواعد العسكرية.
يحاول الإسرائيليون فرض شروط جديدة في تعاطيهم مع القوى الدولية المعنية والمهتمة بلبنان، وهي أن ما أظهره حزب الله من ترسانة عسكرية، وقدرات بشرية، وأسلحة تقنية متطورة قادرة على خرق الدفاعات الجوية، والوصول إلى مديات بعيدة في العمق الإسرائيلي، بالإضافة إلى فيديو عماد 4، والذي يظهر حجم الأنفاق المحفورة في الصخر من قبل الحزب، كلها تتجاوز مسألة القرار 1701، أو جنوب نهر الليطاني أو حتى شماله، أو مسافة العشرة كيلومترات التي طالب الإسرائيليون بالإنسحاب منها.
وما أقلق الإسرائيليين أكثر هو كلام أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله عن الصواريخ الدقيقة والبالستية التي يمتلكها، مع إعلانه بطريقة أو بأخرى، وليس بشكل مباشر، أنه تم إخراجها من جنوبي النهر قبل فترة، بالإضافة إلى إعلانه عن إطلاق مسيرات من البقاع. وبالتالي، أصبحت المساحة التي يمكن للحزب العمل ضمنها عسكرياً بعيدة جداً، ما يسقط بالمعنى الفعلي أي أثر تقني للقرار 1701 أو لنشاط عمل قوات اليونيفيل في الجنوب. وهذا ما ينتج سجالات متعددة تشهدها كواليس دول معنية بالتجديد، إلى جانب المزيد من الضغوط الإسرائيلية التي تعتبر أن كل الحلول التقنية لن تكون مجدية ولن تؤدي إلى أي نتيجة.
كل هذه الملفات والبنود تبدو حاضرة في المفاوضات الدولية، من دون توفر أي بلورة لصورة الحلّ في المرحلة التالية لما بعد الحرب، وما هي الضمانات التي يمكن أن يتم تقديمها بشكل يوفر “الأمن لسكان المستوطنات الشمالية” في إسرائيل. وذلك ما يسعى الإسرائيليون للضغط من خلاله على القوى الدولية، في إطار التحفيز على دعم تل أبيب في أي عملية عسكرية تفكّر تنفيذها في لبنان في المرحلة اللاحقة، أو الضغط في سبيل الحصول على هذه الضمانات.
وبذلك أصبح الواقع في لبنان شديد التعقيد، على الرغم من انخفاض منسوب الانفجار العسكري للحرب والمساعي القائمة لتجنبها. ما يعني أن لبنان سيكون أمام احتمال من إثنين، إما الوصول إلى اتفاق كبير مع ضمانات كبرى برعاية قوى دولية وإقليمية بما فيها إيران، وإما أن الحرب ستكون واقعة.. ولكنها مؤجلة، وفق ما قال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت قبل أيام.
سيبقى سلاح حزب الله موضع أسئلة دولية كبرى، وأسئلة داخلية في ضوء الانقسام السياسي القائم حول دور الحزب. وبما أن هذا الانقسام يبقى قائماً، سيبقى السلاح بدوره واستراتيجيته مهدداً، لا سيما في حال تمت تغذية الانقسام. وهو ما تسعى جهات في الداخل إلى تلافيه، من خلال إعادة طرح الاستراتيجية الدفاعية وشرعنته بشكل رسمي، وبطريقة المواءمة ما بين هذا السلاح والسيادة اللبنانية، كي لا يعود قابلاً للاستعمال الإقليمي أو الفئوي. وهو ما تحاول هذه القوى أن تدرجه على جدول أعمال أي تسوية سياسية مقبلة.