كتب منير الربيع في “المدن”:
يعيد توقيف الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة شريطاً طويلاً من الأحداث والوقائع، لا بد من استعادتها مع تطوراتها وتداعياتها، لقراءة ما يمكن أن يكون آتياً في المرحلة المقبلة، لا سيما في ظل التغيرات والتحولات التي تعيشها المنطقة. إذ عندما وقع الانهيار في لبنان وانهار القطاع المصرفي، كان ذلك انهياراً لمنظومة سياسية كاملة تتجاوز الحدود اللبنانية. وما بعد هذه الإنهيارات تبقى هناك حاجة لإعادة اللملمة والتركيب مجدداً، وهو ما يُطلق عليه مصطلح “اليوم التالي”، أو مرحلة ما بعد الحرب. في هذا السياق أيضاً، يمكن أن نجد أو نتصادف مع معادلة وحدة الساحات العسكرية القائمة اليوم، ونجد ترابطها السياسي والمالي كمشروع هناك إرادة لتطويقه أو فكفكته.
عملياً، الأزمة الجدية في لبنان كانت قد بدأت في العام 2016، قبل التسوية الرئاسية وبعدها، وتداخلت فيها عوامل اقتصادية وسياسية ومالية. تجلّت بداية في أزمة استقالة الرئيس سعد الحريري من الرياض، والتي أريد لها أن تكون حدثاً له أثره وفعاليته في الداخل اللبناني لتغيير المسار السياسي القائم أو الخلل في موازين القوى. اعتبرت تسوية العام 2016 بأنها التتويج الفعلي لسيطرة حزب الله السياسية على لبنان، وسيطرة إيران على أربع عواصم عربية. كان ذلك نتاجاً للاتفاق النووي، فأصبح حزب الله هو القادر على انتخاب رئيس للجمهورية ورئيس مجلس النواب والموافقة على اختيار رئيس الحكومة وآلية تشكيلها.
تزايدت الضغوط طوال عهد الرئيس ميشال عون، وحصلت إشكالات عديدة مع الأميركيين والعرب، ما انعكس تشديداً للعقوبات المالية من جهة، ومطالبة دولية بتغيير السلوك السياسي والتخلّي عن بعض الشخصيات السياسية وإخراجها من الشأن العام أو من الحكومة بالتحديد.
مع تزايد الضغوط كان هناك معادلة دولية يتم التداول بها وهي أنه لم يعد بالإمكان القبول بالوضع السياسي اللبناني وفق الحالة القائمة، وهي تفوق حزب الله على الجميع. خصوصاً أن المنهج الذي سلكه لبنان ابتعد كثيراً على “المنظومة الدولية”. وهو ما اشتدت الضغوط ولا تزال في سبيل إعادته إليها.
هذا في الجانب المالي. أما في الجانب السياسي، فترجمته هو ما يُعلن دولياً حول إعادة ترتيب وتركيب وضع المنطقة. ويردّ عليه الحزب في استمرار المواجهة العسكرية والسياسية لإسقاط الهيمنة الغربية، التي تمنح إسرائيل تفوقاً على غيرها من الدول. وقد تكررت هذه المواقف في الفترة الأخيرة على وقع الحرب في غزة والمواجهات في جنوب لبنان.
عندما أنجز مؤتمر سيدر والذي أقر منح لبنان مساعدات وقروض بقيمة 11 مليار دولار، تضمنت الآلية التنفيذية للحصول على هذه الأموال شروطاً قاسية تتعلق بإصلاح القطاع المصرفي، وإجراء إصلاح سياسي وإداري. وهو ما رفضته الطبقة السياسية كلها. لم تتوقف الضغوط، بل استمرت وصولاً إلى لحظة الانفجار الكبير في 17 تشرين الأول 2019 وما تلاها من أحداث. في تلك الفترة، رفعت القوى الدولية مطلب تغيير جذري في السلطة وشخصياتها. وكانت المطالبات بإنتاج حكومة اختصاصيين مستقلين، عملت القوى السياسية بكل قوة للالتفاف عليها وإجهاضها. وارتكز اللبنانيون كعادتهم على موازين قوى داخلية وحسابات ومصالح متداخلة في الداخل والخارج، من أجل المساومة والبيع والشراء مع القوى الدولية.
إثر الضغوط والمطالبات بالتغيير السياسي، فهم سعد الحريري الرسالة، استقال وعلّق العمل السياسي. علماً أنه قبل ذلك كان قد تلقى رسائل كثيرة وعروضاً حول التخلي عن شخصيات سياسية واقتصادية محيطة به بسبب الشبهات أو لأسباب سياسية. لكنه لم يستجب، ووصل به الأمر إلى تعليق العمل السياسي. في العام 2020 جاء تفجير مرفأ بيروت ليفتح باباً جديداً لأزمة جديدة، انعكست في قرار دولي واضح باتخاذ إجراءات والتضييق على الكثير من الشخصيات السياسية التي يراد “إنهاء دورها”. وتم ترجمة ذلك إما بفرض عقوبات وإما من خلال الاستدعاء القضائي بسبب تفجير المرفأ.
فوق الضغوط والأزمات، واصلت القوى السياسية اللبنانية آلية عملها نفسها، مع محاولات فتح أبواب للتسوية مع الجهات الخارجية. وكان ذلك في النجاح باتفاق ترسيم الحدود البحرية، لعلّ الثمن لذلك يكون مرضياً للقوى السياسية المستحكمة والمتحكمة. لكن النتائج كانت مغايرة، وبقي لبنان قابعاً في أزمته التي تتلاقى مع أزمات سوريا، العراق وغيرها من الدول، التي تشهد تجاذبات إقليمية ودولية، ويتم فيها رسم حدود النفوذ بين قوى دولية والجمهورية الإسلامية الإيرانية.
على وقع هذا الصراع والتحولات، جاءت عملية طوفان الأقصى، التي وضعت المنطقة كلها على شفير حرب، أريد استغلالها لضرب القضية الفلسطينية من جهة، وفتح طريق “التطبيع مع إسرائيل”، وتغيير المعالم السياسية والديمغرافية والجغرافية. وعملياً، لا يمكن لأي مشروع أن يحدث تغييراً على هذه المستويات من دون حصول تغيير في موازين القوى السياسية وفي الشخصيات أو الرموز. بالتأكيد، يريد لبنان تجنّب الحرب الكبرى، ولا سيما حزب الله. فمن الواضح أنه لا يريدها، ولو اقتضى ذلك تقديم تنازلات بمجالات شتّى، إلى جانب وجود قناعة أنه لا يمكن للبنان أن يستمر بالطريقة نفسها، ولا بد من إيجاد مسرب للعودة إلى التماهي أو التقاطع مع المنظومة الدولية. هذا ما يعرفه حزب الله جيداً، كما تعرفه إيران أيضاً، التي تسلك مع الرئيس مسعود بزشكيان مسلك التفاوض والتفاهم مع الغرب، وخصوصاً مع الأميركيين. وهو ما يعلنه الإيرانيون بوضوح.
في هذا السياق، أصبحت كل القوى المتعارضة في الإقليم تبحث عن مسار “اليوم التالي”، وتنتظر ملامحه، في مقابل استمرار ازدياد الضغوط الدولية السياسية والمالية، وآخرها في لبنان مسألة “اللائحة الرمادية” والضغوط القضائية الدولية، التي أجبرت اللبنانيين على التضحية برياض سلامة وتوقيفه.
الضغوط ستستمر بالمعنى العسكري وبالمعنى السياسي، إلى جانب الضغوط المالية، وسط معلومات تتحدث عن استئناف الأميركيين لسياسة فرض العقوبات على لبنانيين وغير لبنانيين. وغالباً ما يستخدم سلاح العقوبات في سبيل إحداث تغيير بالمعنى السياسي، أو لتحويل مسار. تلك العقوبات لا تنفصل عن عقوبات سابقة تم فرضها على ما تسميهم واشنطن “المتورطون في تمويل عابر للحدود اللبنانية”، كالعقوبات التي تفرض على ممولين لحزب الله، أو على أشخاص عملت على تمويل حركة حماس في قطاع غزة. إذ تم فرض عقوبات على أشخاص وشركات في لبنان بتهمة تحويل أموال إلى قطاع غزة. وهنا تتجلى معادلة وحدة الساحات السياسية والعسكرية والمالية، والتي تسعى أميركا إلى تفكيكها أيضاً.
عملياً، فإن من ضحّى برياض سلامة اليوم ورفع عنه الغطاء، بالتأكيد أراد تسديد فاتورة على الحساب لتجنّب دفع المزيد. لكنه في المقابل سيكون ملزماً بتقديم المزيد من الأضحية ومن الشخصيات السياسية التي لا بد من التضحية بها، في مقابل حفظ الوجود والدور. وهو ما سيكون متكاملاً مع رؤية دولية تتشكل حول اليوم التالي للحرب، بالضغوط العسكرية والسياسية. وكما هو الحال بالنسبة إلى “اليوم التالي” الذي يطرحه الأميركيون والإسرائيليون، بالتعاون مع جهات عديدة عربية وغربية، لإدارة قطاع غزة.. هناك بحث أو طرح مشابه لليوم التالي في لبنان لما بعد الحرب، يبدأ من البحث في كيفية معالجة الوضع في الجنوب ديبلوماسياً، ولا ينتهي عند حدود إعادة تشكيل السلطة السياسية وهيكلتها، وانعكاسها على القطاعات الأساسية المالية والمصرفية.
لا شك أن الوصول إلى أي مرسى في هذا الطريق يحتاج إلى مسار طويل من الصراعات والنزاعات والصدامات، والتي قد لا يخلو بعضها من البعد العسكري. وعلى الطريق الطويل أيضاً، يمكن أن يلحق آخرون بسلامة.