كتب منير الربيع في “المدن”:
عند كل محطة أو مفصل يركّز المسؤولون الإسرائيليون في هجومهم على إيران ومحورها. يعتبرون أن مواجهتهم الأساسية هي مع طهران. في المقابل، يتركّز الخطاب الإيراني على مواجهة إسرائيل، لا سيما بعد سماح مرشد الجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي بالتفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية، لإعادة البحث في الملف النووي.
تسعى إسرائيل إلى توسيع الحرب واستدراج أميركا إليها. شدد بنيامين نتنياهو أكثر من مرّة أمام الأميركيين على أن المعركة يجب أن تكون ضد طهران، ومنع امتلاكها لأسلحة نووية. في المقابل، تسعى إيران إلى التفاوض مع واشنطن وتجنّب الحرب الكبرى أو الموسعة. وهو ما تتقاطع عليه مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن.
التراجع الإيراني
الظرف الانتخابي الأميركي، سمح لنتنياهو بأن يذهب بعيداً في مشاريعه، منذ ما قبل خطابه أمام الكونغرس إلى ما بعده. نجح في استغلال ضعف الإدارة وظروفها من أجل استدراج الأميركيين أكثر إلى المنطقة، وإعادة بوارجهم العسكرية ونشرها، في إطار ردع إيران وحلفائها، ومنعهم من توجيه ضربات مشتركة وموسعة إلى إسرائيل. وساهم الأميركيون في تأجيل الردّ الإيراني على استهداف طهران واغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية. كما ساهموا في تنفيذ حزب الله لـ”ردّ عقلاني” على استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت.
بنتيجة الضغوط العسكرية الإسرائيلية، والدعم السياسي الأميركي، تراجعت طهران حالياً عن تنفيذ الردّ، وصولاً إلى التصريح الذي أدلى به مرشد الجمهورية السيد علي خامنئي حول التراجع التكتيكي أمام العدو. إذ قال: “إذا تراجعتم أمام العدوّ المهاجم، بأنواعه -فقد يكون المهاجم شاهرًا سيفه، ويقابلكم في ساحة المعركة وجهًا لوجه، وأحيانًا يكون دعائيًّا، وأحيانًا أخرى يكون اقتصاديًّا، ورابعًا يكون عسكريًّا باستخدام تجهيزات حديثة- تراجعًا غير تكتيكيّ، في بعض الأحيان، يكون التراجع تكتيكيًّا كما هي الحال مع التقدّم، ولا ضير في ذلك {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ}؛ هكذا يكون التكتيك؛ إذا تراجعتم بخلاف هذه الحالات {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}. والأمر كذلك في الميدان العسكريّ، وينطبق كذلك في الميدان السياسيّ”. إنه موقف متطور من إيران لاستكمال الموقف الأول حول السماح باستئناف التفاوض مع واشنطن. علماً أن التفاوض قائم منذ فترة طويلة، ويشمل ملفات متعددة، خصوصاً أن طهران كانت قد قالت سابقاً، على لسان وزير الخارجية بالوكالة علي باقري كني، إن مشكلتها مع أميركا هي حول الصراع على حدود النفوذ في المنطقة.
..والخروج العراقي
يمكن لموقف الخامنئي أن يحمل تفسيرات متعددة ومتناقضة، ففي مكان يمكن وصفه بأنه تمهيد للتراجع السياسي والعسكري في مختلف الجبهات والملفات، لتجنّب الحرب. وفي مكان آخر يمكن تفسيره في سياق الدخول بمسار جديد مع الأميركيين للبحث في كيفية التعاطي بالمرحلة المقبلة على مستوى مناطق النفوذ في المنطقة. وذلك لا يعني اقتصار التفاوض على الملف النووي، بل شموله لكل الملفات في المنطقة، من اليمن إلى العراق، فسوريا ولبنان. لا سيما أن التطور في الموقف الإيراني يأتي في ظل مفاوضات عراقية أميركية حول جدولة موعد انسحاب قوات التحالف والقوات الأميركية من الأراضي العراقية، بالإضافة إلى موقف وزيري الخارجية والدفاع العراقيين اللذين أخرجا العراق من منطق وحدة الساحات.
لبنان على الحافة
لبنان مشمول بالملفات التفاوضية أيضاً، خصوصاً في ظل قناعة لبنانية وخارجية بأن أي مدخل لتسوية لبنانية تبدأ من الاتفاق الحدودي، وخفض التصعيد ومنع اندلاع حرب، وتصل إلى إعادة تشكيل السلطة السياسية. وهو لا بد ان يبدأ بالتقاطع بين طهران وواشنطن، وينتقل إلى عواصم مؤثرة أخرى. يأتي ذلك في ظل استمرار البحث الأميركي في كيفية خفض التصعيد على الحدود الجنوبية للبنان ومنع اندلاع حرب كبرى.
من الواضح أن المنهجية التي تعتمدها طهران، تركّز على عدم إنجاح نتنياهو في استدراج الجميع إلى حرب. كما أنها تعمل في سبيل كل ما يسهم بتعزيز حظوظ فوز المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
في المقابل، يعمل نتنياهو عكس ذلك تماماً، وكل همّه قطع الطريق على وصول هاريس إلى الرئاسة، وبذل مساعيه لإنجاح دونالد ترامب. وإذا كانت إيران تريد من التراجع أو التنازل منع الحرب وقطع الطريق على فوز ترامب. فإن نتنياهو قد يلجأ إلى استمرار التصعيد أو بالحدّ الأدنى مواصلة الحرب وإطالة أمدها إلى ما بعد الانتخابات الأميركية. وهي حرب يريد لها أن ترسم ملامح المرحلة المقبلة على مستوى المنطقة.
لا يزال السلوك الإسرائيلي يشير إلى السعي المستمر للمضي قدماً في الحرب، من قطاع غزة والضفة الغربية وصولاً إلى لبنان. إذ تزايدت التهديدات الإسرائيلية تجاهه في الأيام الماضية، إلى جانب الاستعدادت العسكرية التي يعلن الإسرائيليون عن اتخاذها، في إطار ما يسمونه تغيير الوقائع العسكرية، إما بالديبلوماسية أو بالتصعيد العسكري.