كتب نزار عبد القادر في “اللواء”:
في الوقت الذي تراجع فيه عنف وضراوة العمليات على جبهة غزة وشمالي الضفة الغربية، انصب اهتمام القيادات الاسرائيلية السياسية والعسكرية على الجبهة الشمالية مع لبنان، حيث تكررت التهديدات بتوسيع الجهد العسكري عبر الخط الازرق، مع امكانية انزلاق الى حرب واسعة مع حزب الله. بالفعل تكررت تصريحات المسؤولين الاسرائيليين بتهديد لبنان، بدءاً من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، بعملية عسكرية واسعة، معلنين اعطاء تعليماتهما للقيادة العسكرية للاستعداد للمعركة القادمة، وكان رئيس الاركان الاسرائيلي هرتسي هاليفي قد جدَّد تهديداته، اول امس، من خلال اعلان وضع الخطط اللازمة لنقل الهجوم الى الجبهة الشمالية.
ردّ نائب الامين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم على هذه التهديدات: «نسمع كل يوم ان الاسرائيلي يهدد بتوسعة الحرب من اجل اعادة النازحين لديه الى بيوتهم».
ونقول للاسرائيلي: «اذا كنت تفكر بأن تزيد عدد النازحين تستطيع ان تطلق عملية،فليعلم الاسرائيليون بأنه لا يمكنهم اخذ قرار اعادة سكان الشمال من دون ان تقف الحرب في غزة، وهذا محسوم بالنسبة إلينا».
ماذا يعني هذا التصعيد في التهديدات الاسرائيلية للبنان، وكيف يمكن ان تترجمه اسرائيل الى تصعيد في الموقف العسكري بشكل يخدم مصالحها، وخصوصاً لجهة تسهيل عودة 70 الف نازح من شمال اسرائيل؟ وماذا تعني ردود قيادات حزب الله على هذه التهديدات مع الاستمرار بربط قرارات حزب الله العسكرية بوقف النار في غزة؟
بالفعل وصلت حدة المواجهات الى اعلى مستوياتها عندما تجرأت اسرائيل على القيام بعملية «نوعية» في قلب الضاحية الجنوبية لاغتيال القائد العسكري فؤاد شكر، حيث توعد الحزب بالثأر من خلال شن عمليات واسعة ضد اسرائيل. وشن حزب الله هجوماً بمئات الصواريخ وعشرات المسيّرات ضد مجموعة من الاهداف العسكرية الاسرائيلية، دون ان ينجح في احداث اضرار جسيمة في الجانب الاسرائيلي، ولتعود بعدها الامور الى ما كانت اليه قبل الاغتيال، بتنفيذ عمليات تبادل القصف بشكل مدروس ومضبوط.
بعد عملية الثأر لفؤاد شكر، والتي اتصفت بعدم الفعالية، يبدو ان حزب الله ما زال مكشوفاً امام احتمال قيام اسرائيل بعمليات مستقبلية مؤثرة وخطيرة، تهدد دون شكل قدراته على تصحيح الخلل الاستراتيجي الذي احدثه اغتيال شكر في عمق الضاحية، وبالتالي خسارة عامل الردع الاسرائيلي الذي احتفظ فيه الحزب لسنوات طويلة في مواجهة التهديدات الاسرائيلية.
يمكن الاستدراك حول عدم فعالية عملية الثأر بربطها بحرص حزب الله على عدم دفع اسرائيل لتوسيع عملياتها والدفع الى حرب واسعة غير محسوبة النتائج. هذه الحسابات تحديداً قد حالت دون استهداف الاماكن المأهولة، والتسبب بقتل مدنيين أو إصابة بنى تحتية اساسية، ويلفت بعض المراقبين بأنه ليس هناك ما يثبت بأن استهداف قاعدة غليلوت شمال تل ابيب، قد حدث او ان قاعدة الاستخبارات قد اصيبت، وذلك انطلاقاً من عدم مبادرة حزب الله الى عرض مشاهد عن هذا الهجوم.
يبقى من اخطر التطورات الاستراتيجية في هذه المواجهة خسارة حزب الله لعنصر المفاجأة في عملياته، وهذا ما اثبتته عمليات القصف الاسرائيلي الكثيف قبل وقت قصير من انطلاق عملية الثأر لشكر. لكن الملفت في الامر، كان مسارعة الامين العام حسن نصر الله الى اعلان انتهاء الثأر، وبأنه قد قرّر العودة الى عمليات الاشتباك المضبوطة، والتي طبقت خلال عشرة أشهر من الثأر لغزة.
ويربط حزب الله حرصه على العودة السريعة لقواعد الاشتباك بعامل الحفاظ على المكاسب التي حققها خلال فترة الاشتباكات، حيث نجح في نقل «منطقة النزاع» – Buffer zone – من شمالي الخط الازرق الى جنوبه داخل اسرائيل، الامر الذي تسبب بنزوح اكثر من 70 الف اسرائيلي، وكان قد نوّه بهذا الانجاز لحزب الله الناطق باسم الخارجية الايرانية ناصر كنعاني في تصريحه في 26 آب الماضي من خلال تغريدته على منصة أكس، معتبراً ذلك بمثابة انجاز استراتيجي، وبأنه من الضروري الحفاظ عليه، حيث يشكل تبدلاً هاماً في قواعد المواجهة مع اسرائيل.
من المؤكد بأن حزب الله سيكون وفياً لوعده بوقف عملياته ضد اسرائيل فور اعلان وقف النار في غزة. ولكن ذلك لن يعني أبداً جهوزية الحزب للبحث في اجراء اي انسحاب عسكري لقواه الى شمالي نهر الليطاني، وذلك حرصا على الحفاظ على قدراته في تهديد امن شمالي اسرائيل، وبالتالي التمسك باستراتيجته الرادعة لاسرائيل.
في المقابل فإن اسرائيل لا ترغب فقط بتراجع الاشتباكات على الجبهة الشمالية، ولكنها تريد التخلص بشكل نهائي وكامل من قدرات حزب الله على تهديداتها، بدءاً من اجبار سكان الشمال على النزوح عند كل توتر عسكري يحصل عبر الخط الازرق. لا ترغب اسرائيل فعلياً للتوصل الى وقف للنار على الجبهة الشمالية، ولكنها تريد مع حلفائها التخلص من التهديد الذي يشكله الحزب على امنها وعلى امن المنطقة. كأحد اقوى اذرعة ايران العسكرية، وتدرك تل ابيب بأن ذلك لن يتحقق الا من خلال تفكيك البنية العسكرية الكبيرة للحزب. لكنها تدرك بالأكيد مدى صعوبة تحقيق هذا الهدف سواءٌ لجهة التخلص من قدراته العسكرية او لجهة ايجاد الظروف المناسبة للدولة اللبنانية لاستعادة سيادتها وشرعيتها على الجنوب، وانتزاع من حزب الله وجوده «وشرعية الواقع» التي يفرضها جنوباً.
تبقى الاشتباكات المتواصلة بين اسرائيل وحزب الله سبباً لإمكانية الانزلاق للحرب، وأي سوء تقدير من قبل أيٍّ منهما سيؤدي الى تفجير «القنبلة الموقوتة» المتمثلة بروح المغامرة لدى الطرفين.
يبدو حتى الآن ان اللاعبين الكبار ايران والولايات المتحدة هما حريصان على منع حصول حرب واسعة. من الواضح ان طهران تسعى الى عدم الانزلاق الى حرب تضعها في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة واسرائيل. وتفضل الابقاء على المواجهة بواسطة الحلفاء، في نفس الوقت لا تسعى اميركا الى الدخول في حرب جديدة في الشرق الاوسط انطلاقاً من تجربتها الباهظة في كل من افغانستان والعراق. لا يكفي تحذير الحزب واسرائيل من نتائج اندلاع حرب مدمرة بل على واشنطن وطهران بذل مساعيهما المكثفة لمنع حصولها.