كتب منير الربيع في “المدن”:
إنها الحرب. يمكن وصفها بالمفتوحة، أو المتدرّجة. لكنها الحرب التي لم يعد منها مهرب. وهي الحرب المؤجّلة والتي لم تكن مرغوبة لدى أطراف عديدة. إنه المشروع الإسرائيلي في تحويل لبنان إلى جبهة رئيسة بدلاً من اعتباره جبهة إسناد.
يمكن القول إن مرحلة المشاغلة والديبلوماسية كانت قد انتهت مع زيارة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين إلى إسرائيل، ومع زيارات مسؤولين عسكريين أميركيين كبار إلى الحدود مع لبنان. وبعد هذه الزيارات، شهدت الجبهة تصعيداً إسرائيلياً. رسائل كثيرة كان لا بد من التوقف عندها، أبرزها إلغاء وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن زيارته لإسرائيل. وهو ما تزامن مع إعلانات أميركية متكررة عن الالتزام بالدفاع عن إسرائيل، وحمايتها. وللمصادفة، أن التصعيد الإسرائيلي الكبير جاء بالتزامن مع موعد وصول حاملات الطائرات الأميركية إلى شواطئ البحر المتوسط.
التصعيد الإسرائيلي المشتهى
إنه التصعيد الذي كان يريده الإسرائيليون منذ 7 تشرين الأول وفتح حزب الله لجبهة الإسناد، فأرادوا تحويل غزّة إلى ميدان ثانوي في مقابل تقديم أولوية الجبهة اللبنانية. كل ذلك بعد إجهاض محاولات كثيرة لوقف النار في غزة على أن ينسحب ذلك تهدئة في لبنان. استشعرت إسرائيل ضعفاً لدى الإدارة الأميركية بوصفها بطة عرجاء، كما استشعرت عدم رغبة إيرانية في الدخول بحرب واسعة، فاعتبرت أنها أمام فرصة “تاريخية” لكسر التوازنات مع حزب الله، واستدراج الأميركيين إلى الحرب، في محاولة للاستفراد بالحزب. عدم رغبة إيران في توسيع الحرب، وعدم قدرة أميركا على تجنّب دعم إسرائيل، يتيح لحكومة بنيامين نتنياهو أن تصعّد الضربات إلى أقصى الدرجات، مع طموح بقدرة أميركية على ضبط الجبهات الأخرى، لا سيما في اليمن أو العراق.
حرب لبنان الثالثة
هي حرب لبنان الثالثة وفق ما يصفها الإسرائيليون. يمكن أن يكون لها أشكال متعددة، توسيع الضغط الكبير لتحقيق “حزام الـ10 كلم” أو ربما أكثر من ذلك. أو فعلاً يمكن أن يكون الجموح الإسرائيلي ساعياً وراء ما ادّعاه نتنياهو، وهو تغيير وجه الشرق الأوسط. والمقصود هنا العودة إلى معادلة رُفعت سابقاً في حرب العام 2006 حول “الشرق الأوسط الجديد” الذي تريد فيها إسرائيل أن تحقق انكساراً في صفوف أعدائها، أو الانتقال إلى مرحلة يُستخدم فيها مصطلح أميركي وهو تغيير سلوك إيران وحلفائها.
تستشرس إسرائيل في الحرب، توسيع الهجمات والضربات واستهداف المناطق المأهولة بالسكان، غايتها دب الرعب في صفوف اللبنانيين، والعمل على خلق إشكالات اجتماعية وسياسية وطائفية ربماً. غايتها أيضاً إشعار حزب الله بلحظة تخلّ أو انفضاض من حوله، عبر استهداف بيئته الحاضنة أو بالإصرار على عمليات التهجير. قد يكون ذلك في سبيل تكثيف الضغوط لدفع الحزب إلى التنازل والتراجع والقبول بصيغة حلّ ما بعد الديبلوماسية وما قبل الحرب الكاملة.
عجز الديبلوماسية
كل ذلك يأتي وسط عجز في الجهود الديبلوماسية المتعددة الأطراف التي استُنفدت نهائياً، خصوصاً أن رسائل دولية كانت تصل إلى لبنان عبر الأميركيين وغيرهم تفيد بأن أبواب الديبلوماسية قد أغلقت، وأن تل أبيب مصممة على الدخول في حرب. ولكن الرسائل الأميركية أرفقت بتذييل حول “التحذيرات” من تنفيذ عملية برية واسعة. في المقابل، كانت تل أبيب تستند على الدعم الأميركي، وعلى إشارة بالغة وصلت على ألسنة المسؤولين في واشنطن حيال عمليات الاغتيال التي نفّذت ضد قادة فرقة الرضوان. إذ جاء التعليق الأميركي بأن كل مذنب سينال حسابه. في الموازاة، تلقى لبنان رسائل كثيرة حول عدم الرغبة الدولية بالحرب الكبرى، وأنه لا يزال هناك مجال للتراجع وترتيب حلّ ديبلوماسي. مع تحذيرات بأنه في حال عدم التجاوب فإن الضغط سيشتد أكثر، والحرب ستندلع.
على وقع الغارات الكثيفة وعمليات التهجير المتعمد، وفيما سعت إسرائيل إلى إغلاق كل أبواب التفاوض، تاركة مخرجاً واحداً وهو الرضوخ لشروطها، وهو ما لا يوافق عليه حزب الله على الإطلاق، تكثفت الاتصالات الديبلوماسية في محاولة لمنع الانفجار الكبير.
دخلت جهات عديدة على الخطّ، إلى جانب زيارة المنسقة الأممية في لبنان إلى إسرائيل، وحصول تحرك ديبلوماسي تركي قطري إلى جانب التحركات الأميركية الفرنسية. تكاد تكون هذه الفرصة الأخيرة، على تضاؤلها، ما قبل التدهور السريع.
هناك انتقال إلى مستوى جديد من الحرب. الانتقال من وقف إطلاق النار في غزة لوقف جبهة الإسناد في لبنان، إلى معادلة يحاول الإسرائيليون فرضها وهي عودة سكان المستوطنات الشمالية، تقابل عودة السكان الذين تم تهجيرهم في مختلف المناطق اللبنانية، ولا سيما في الجنوب والبقاع.
إنها معادلات الحرب والميدان، والتي لا يمكن التنبؤ بها أو البناء عليها، والمسألة تبقى متصلة بما تقود إليه المواجهات العسكرية، التي بحال تطورت يمكن لإسرائيل أن تغير في دفتر شروطها، وتطمح لما هو أكثر من القرار 1701، وذلك في حال تركز توسيع الضربات وتنفيذ الغارات بعيداً جداً عن نهر الليطاني، ما يعني فتح الجبهة بشكل واسع، إلى جانب تشكيل كل عناصر الضغط على حزب الله سياسياً، وشعبياً واجتماعياً.