بقلم الدكتور جورج شبلي
إنّ عودةً الى بعض المراجع، ومنها الدينيّة، كالعهدِ القديمِ والقرآن، تُخبرنا عن “نوح” الذي أُنبِئَ بطوفانٍ أو فَوَرانِ الماءِ على سطحِ الأرض، فبنى فُلْكًا، أي سفينةً عظيمةَ الكِبَرِ والمساحة، وحملَ فيها أهلَه، ومن كلِّ دوابِ الأرضِ وطيورِها زَوجَين، وهكذا، نجَتِ البشريّةُ، بفِعلِه، من الانقراض، بعدَ أن هلكَ جميعُ الآخرين، ولم يُبقِ اللهُ للكافرين ديارًا. أمّا وقد أطلقَ ” المُجاهِدون ” على عمليّتِهم، في السّابع من أكتوبر، اسمَ ” طوفان الأَقصى “، وسارَ، معهم، مَنْ سار، إسنادًا لغزّة الجريح، فلم يكنْ هؤلاءِ وأولئك على قَدْرِ وَعيِ ” نوح “، فلم يُحَضِّروا قارِبَ نجاةٍ، واحدًا، لأهلِهم الذين أبادَ كثيرينَ منهم طوفانُ النّار والبارود، ولم يكنْ هؤلاءِ من الكافِرين ” ليأخذَهم الطّوفانُ وهم ظالِمون “.
إنّ ما يجري، عندَنا، من تحويلِ الوطنِ قبرًا مفتوحًا، تلحسُ القذائفُ من دمِه، ويضمِّدُ جراحَه بالجراح، خلفَه مسؤولٌ طوفانيٌّ جعلَ لبنانَ، وأهلَه، مواسمَ أَلغام، وضَيَّعَ منهم جوازَ المرورِ الى السّلامِ، ليطمرَهم وَحلُ الأرض، وليغدوَ حلمُ كثيرينَ، منهم، خيمةً، مسحوقينَ ومذلولين تحت عنوان ” نازحين “.
ولمّا كانت غالبيّةُ الشّعبِ رافضةً زجَّ البلادِ في حربٍ جهنّميةٍ، عبثيّة، ارتدَّت على الوطنِ دمارًا، وضحايا، وتهجيرّا، وخسائرَ فادحةً في الحجرِ والبشرِ والاقتصاد، آنَ الوقتُ لرَفعِ الصّوتِ الرّافضِ أن يصبحَ الوطنُ وَقفَ الشّيطان، وغزَّةً أخرى، وأن يُفرَضَ استكمالُ الموتِ المتجوِّلِ بأمرِ نزوةٍ أو شعاراتٍ تشطُّ عن حقيقةِ الوطن، أو خدمةً لمصلحةٍ خارجيّةٍ معروفة، وأن تُستَباحَ حياةُ النّاس بالمجّان، لِذا، فقد أصبحَ رفعُ الصّوتِ واجبًاً وطنيًّا أيًّا تكنْ ردّاتُ الفعلِ فَجَّةً.
إنّ الوطنَ، اليوم، يدفعُ فاتورةً باهظةً، بُنودُها سلامتُهُ، وأَمنُ مجتمعِهِ، ومصيرُه المُفَخَّخ… فهل حَقٌّ أن نقول: …ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ ؟؟؟ لقد جعلَ المتهوِّرونَ شيطانَ الموتِ يُنشِبُ حِرابَه المسمومةَ في قلبِ الوطن، ونَزَّفوا جَنبَه، وتركوا الحربَ تحفرُ في كيانِهِ أثلامًا داميةً غصبَته فرحَه، وصلبوه على خشبةٍ من لَحمِهِ… أوليسَ من حقِّه، بعدَ ذلك، أن ينتفضَ ويرفض، ولا سيّما أن لا مخلِّصَ مُنتَظَر ؟؟؟
إنّ قلقَ الوطنِ لا يتَّصِلُ بالشّياطين الوهميّين، وهو ليس جَفوَةَ حَظّ، كما أنّ نقمتَه المُغتاظة، الآتيةَ من المَرارةِ، والألم، والموت، جعلَته أن يَلعَنَ بعضَ ناسِه عَلَنًا، لأنّ هذا البعضَ قد أشاحَ عنه، وانصهرَ في بنيةٍ هجينةٍ أطاحَت بمكوّناتِ الكيان، وزجّ به في أتونِ حربٍ حوّلته ركامًا، وجعلَت أهلَه يتجوّلون في كفنٍ ينزفُ رمادًا.
الوطنُ يسألُ عَمّا فعلَه مشروعُ الإسنادِ، لغزّةَ المنكوبة، وللبنانَ المُدَمّى، فالعدوُّ لم يأبهْ لفِعلِ الإسناد، ولم ينشغلْ بهِ عن تدميرِ غزّة، وقتلِ أهلِها، كما توهَّمَ ” المُجاهدون “، ثمّ ارتدَّ الى الجنوبِ، وتاليًا، الى كلٍّ مساحةِ البلاد، مخلِّفًا ما لم يشهدْه تاريخُ لبنانَ من قتلٍ، وخرابٍ، لا يكفيهما كلُّ دموعٍ العالَم… وهكذا، لم يجلبِ الإسنادُ، في الملموسِ الموكَّد، إلّا حالةَ قَهرٍ، وذلٍ، وقتلٍ، ونزوح، وقساوةَ يأسٍ أين منها طَعناتُ السُمّ.
الوطنُ يسقطُ في الهاوية، وهو منظرٌ أَشَدُّ قبحاً من الصَّدمة، يكشفُ عن مقهورينَ تأصَّلَت فيهم فكرةُ الظّلمِ بحمولتِها القاسيةِ، وتَفَسَّخَ أملُهم أمامَ ” حَربَجِيّين ” متهوِّرين، لا مخطَّطَ لهم، أسرَتهم إيديولوجيّتُهم العقيمةُ، ويافطاتُهم المتشظِّيةُ التي أنتجَت، في ذواتِهم، ضُمورَ حسِّهم الوطنيّ، فانزلقوا في حيثيّةِ الانتحارِ المجّاني، ولم يُبعدوا ناسَهم عن شلّالِ الموت، ما حوَّلَ أملَ الواثقين بهم، من دائرةِ ضمانِ الحِماية، الى دائرةِ الإحباطِ والانهزام.
في خِضَمِّ مرحلةِ المصائبِ التي لها مسبِّبابٌ وأبطالٌ معروفون، لن نقبلَ، بعدُ، بأن يلجأَ المتهوِّرون الى غسلِ أيديهم من مسؤوليّتِهم التراجيديّة عمّا يحصل، وما يحصلُ فِعلٌ جرميٌّ أدخلَ البلادَ في نَفَقِ الموت، وأضحى الوطنُ المقهورُ أَطلالَ وطنٍ حَجَرِيِّ المَلمَح. عسى، بعد هذه المرحلةِ المُميتةِ التي أودَت بمستقبلِ لبنانَ أدراجَ الرّياح، ألّا نستيقظَ، ثانيةً، على بروباغاندا مُتَخَيَّلة، وعلى ارتدادِ رافِعي بِندَيرَةِ الحربِ، الى الدّاخلِ، ترسيخًا لهيمنةٍ على السّلطةِ، والقرار، وإمعانًا في نَشلِ الهويّةِ التي لُوِّثَت بصواعقِ الموت.