جاء في “الراي”:
بيروت ليست بيروت، فـ «ستّ الدنيا» في حالٍ يشبه آخِر الدنيا… طوفانُ ناسٍ في العاصمة التي كلما ضاقتْ بالفارين من الجحيم، اتسع قلبُها لموجاتٍ تلو موجات من النازحين من ملاعب النار التي تزداد تأجُّجاً في غير مكان من لبنان الذي يواجه الآن اجتياحاً جوياً فتاكاً لم يَختبر تَوَحُّشه من قبل حتى إبان الاجتياح البري الذي بلغ بيروت في العام 1982.
مليون نازح وأكثر هُجّروا من بيوتاتهم وبلداتهم في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، وغالبيتهم قصدوا بيروت التي ساد اعتقادٌ بأنها خارج حلقة النار، إلى أن دهمتها غارات الاغتيال غير مرة، في الكولا، والباشورة مروراً بالجناح وطريق المطار.
قد تبدو شوارع العاصمة هي هي بتفرعاتها وأرصفتها، بأبنيتها ومعالمها لكن روحاً مختلفة ترفرف عليها تكاد تُلمس بالأصابع.
بيروت الحرب ليست جميلة لكن يكفيها حسناً وفخراً أنها فتحت قلبها لتستقبل حشوداً من النازحين طلبوا فيها الأمان ووجدوا على أرصفتها وفي فيء حيطانها وباحات مساجدها وملاعب مدارسها المأوى والسقف.
بيروت اليوم، تقلصت مساحتها وكبُر قلبها. ومع كل غارة واستهداف لضواحيها أو على أطرافها أو لعمقها تضيق أكثر وأكثر ويزداد أعداد الناس فيها رغم حزام الرعب والنار الذي يزنّرها.
«الراي» جالت في أحياء بيروت وشوارعها لتستطلع حالها وحال مَن فيها.
المدخل الشمالي هادئ على غير عادته. سياراتٌ قليلة تَعبر مُسْرِعَةً وتنزل في اتجاه المرفأ الشاهد الجريح على مآسي العاصمة المتوالية، أو نحو الوسط التجاري. هنا كل شيء يسير بإيقاعٍ بطيء جداً.
المحلات في مجمع أسواق بيروت فَتحت أبوابَها، لكنها من دون زبائن هي التي كانت تستعدّ للاحتفال بإعادة الافتتاح واستعادة ألقها ونشاطها بعد ما أصابها من خراب إثر انفجار المرفاً في 4 أغسطس 2020.
مقاهي منطقة عين المريسة الراقية التي كانت تعجّ بالرواد، والأرصفة التي تضيق بالسيارات الفارهة تستعدّ «بلا نفس» لنهار جديد واستقبال رواد. تقوم بما عليها لكنها تفتقد ضحكات الناس. ربما لن يغيبوا عن الموعد لكن الوجوم رفيق جلساتهم.
على الكورنيش البحري بدءاً من «الزيتونة باي»، يختلف المشهد وتصبح حركة الناس والسيارات أكثر كثافة. وكأن كل شيء طبيعياً، ولكن مَن ينظر إلى الوجوه ويدقق في ملامحها يدرك على الفور أنها ليست زحمة الناس الطبيعية في صباحٍ عادي، بل هم الناس الذين يخرجون لشكر ربهم على أنهم نجوا من ليلة جنونٍ أخرى وبلغوا نهارهم سالمين.
على الكورنيش بقايا رياضيين يمارسون ما اعتادوا من تمارين صباحية. أعدادهم القليلة لا تُقارن بما كان يشهده هذا الكورنيش من نشاط صباحي وحماسة فياضة.
نتقدم أكثر على لجهة البحر فيتحول المشهد: هنا الرواد نادرون، الكورنيش لم يَعُد لهم، وصار مأوى للنازحين. خِيَم تتكئ بشراشفها على الدرابزين البحري أو جذوع أشجار النخيل الصغيرة المزروعة هناك. خِيَم لا تشبه الخِيَم حتى بل هي عبارة عن أغطية وقِطَع قماش وصناديق من الكرتون جُمعت لتشكل سقفاً وجدراناً وأسرّة. الفرش، وهي عملة نادرة، مشلوحة فوق الدرابزين لتجفّ من مياه تشرّبتها بعد ليلة ماطرة، وفي جوارها مَن يَحرسها ويطمئنّ أن أحداً لن يسلب حاجياته منه.
أولاد يلعبون على الرصيف الواسع، وأمهات يجلسن على الأرض في فيء الشجر.
نقترب من خيمة قرب الطريق، فنلمح داخلها عجوز يبدو من ملامح وجهها أنها ضائعة لا تدرك ما يجري حولها. تتكدّس داخل الخيمة بالقرب منها عائلةٌ بأكملها. يقترب الأب نحونا صارخاً بانكسار: «بدنا حرامات عم نبرد بالليل» فيما الأمّ وبخجلٍ تطلب حفاضات لصغارها وللمرأة العجوز التي باتت عاجزة عن الحركة والإدراك.
مَشاهد مؤلمة تتكرّر على طول الكورنيش. عائلات في العراء، لبنانيون، سوريون، فلسطينيون وبعض جنسيات أخرى ما عاد بينهم فارق إذ صاروا كلهم نازحين… في الجهة الأخرى من الكورنيش يتبدّل المشهد مرة جديدة ليعكس التناقضَ الذي طالما ميّز بيروت. هنا مقاهي الأرصفة تعجّ بالناس والرواد، يتناولون قهوةَ الصبح والمنقوشة. يتداولون في شأن الوضع في البلد وينظرون إلى الطرف الآخَر من الكورنيش بمشاعر متناقضة يصعب عليهم فهمها أو يخجلون من التعبير عنها.
عند جدار الجامعة الأميركية في بيروت، يتجمع عدد كبير من العائلات، ناسها يتفيؤون حجارته ويستندون إلى حجارة الرصيف. تتوالى الخِيَم وكأن الجدار يفصل بينهم وبين الموت والنار. استكانوا للجدار ورصيفه وركّزوا خِيمهم المصنّعة وكراسيهم وطاولاتهم وأغراضهم المتكدسة في أكياس من النايلون، وحتى نراجيلهم. وشهدت حياتهم بعض الانتظام الذي يفتقر إليه نازحو الطرف البحري من الكورنيش الذين يعيشون القهر والذل.
هنا مدرسة «سان فرنسوا» تحوّلت مركز إيواء. نسترق النظر صوب ملعبها: لايزال يعج بالأطفال كما في الماضي، لكنهم اليوم لا يلعبون أو يمرحون، هم فقط يعيشون.
الناس داخل المدرسة يسكنون الصفوف، من الروضات إلى صفوف التخرج.
لا يتخلون عن بعض من مزاح يعينهم في تحمّل أوضاعهم البائسة: «كنت أحلم بالوصول إلى صف البريفة»، يقول أحد الشبان، ليضيف آخر ضاحكاً «ها أنا اليوم في الصف الثانوي الثالث فرع علمي». ضحكةٌ تخفي الكثير من الوجع والشوق إلى بيوتات يفتقدونها.
في كليمنصو، مدرسة راهبات العازرية فَتحت قسماً واسعاً منها للنازحين كمركز إيواء، لكن ذلك لم يعفها من بعض التكسير والاستقواء من أفراد أرادوا منها استقبال المزيد من النازحين وتأمين احتياجاتهم. وتدخلت القوى الأمنية وفضّت الخلاف، كما تدخلت في أماكن أخرى حيث لجأ البعض إلى القوة لدخول المباني عنوةً.
وفندق البريستول، كما مبان مملوكة لأشخاص غير لبنانيين وبعض البنايات الفارغة، كانت عرضة لمحاولات اقتحام بالقوة بادر الجيش وقوى الأمن إلى لجْم اندفاعتها.
بعد عجقة الحمرا تهدأ الأمور كما تهدأ بعد ليلٍ شهد غارة جوية على منطقة الباشورة البيروتية أدت إلى نزوح أهل المنطقة البيارتة إلى وسط بيروت وداخلها.
مدافن الباشورا أصيبت ومعها قلوب أهل الحي البيروتي القديم. أين المفر؟ بيروت التي استقبلت النازحين تشعر بأنها بحاجة اليوم إلى غطاء سياسي يوفر لأهلها وأبنائها الأمان.
قناني المياه الفارغة تملأ جوانب الطريق، وبقايا الخبز وأكياس النايلون والورق. وفي شارعٍ خلفي تتراكم أكوام النفايات. فقد بات عدد الناس في بيروت يفوق طاقة البلدية على التصرف.
وفي شارع الحمرا يبدو المشهد وكأنه «يوم الحَشْر». ناس وسيارات وزحمة وزمامير وزعيق، ولا مكان لوضع الأصبع في الشارع الذي يختنق بناسه.
الشوارع الفرعية والأزقة تشهد زحمة أولاد ومراهقين وكأنهم وَجدوا فيها ملعباً لهم بعيداً عن عيون الأهل التائهة والسارحة في همّ آخَر.
هنا بسطةٌ توزّع ربطات الخبز مجاناً، وهناك غالونات مياه معدة للتوزيع. أكشاك المناقيش والسندويشات مزدحمة، وكذلك المقاهي.
فالناس في بيروت، أهلها كما النازحون إليها، يبحثون عن متنفس يجدونه في جلسات الأرصفة ومقاهيها.
مواقف السيارات مكتظة حتى التخمة، وصفوف السيارات المتوقفة تحتل الصف الثاني إلى جانب الرصيف محوّلة شارع الحمرا الرئيسي ومتفرعاته إلى شرايين ضيقة بالكاد تتسع لسيلِ السيارات.
في ساحة الشهداء، تحول مسجد محمد الأمين مركز إيواء مرتجل، وساحة الثورة التي احتضنتْ قبضتَها وثوارَها تحتضن اليوم النازحين.
قرب تمثال الشهداء كدساتٌ من فرش إسفنجية معدّة للتوزيع وكأن المكان بات رسمياً مركز إيواء.
اكتظاظ الناس هنا والغضب الكامن داخلهم وضغوط يومياتهم يولد مشاكل وشجارات. أمام عيوننا حصل تضارب وصراخ وسباب بين مجموعة من الشبان. ووفق مصادر إخبارية حصلت عملية قتْل ثأرية لشاب نازح من مخيم صبرا. محافظ بيروت القاضي مروان عبود أعلن أن بيروت المدينة الصغيرة الجميلة ما عادت قادرة على استيعاب المزيد من النازحين الذين بلغ عددهم نحو 300 ألف. فلا بناها التحتية من ماء وتصريف وكهرباء ومولدات تحتمل هذا العدد ولا خدماتها وخدمات البلدية قادرة على إنجاز المطلوب منها… بيروت تختنق ولكن عاصمة لبنان النازح والنازف لن تترك أهلها.