كتب منير الربيع في “المدن”:
يعجز العقل بتحليلاته، تقديراته، والمعلومات المتوفرة لديه عن استيعاب ما يحصل. يتفاقم العجز في قراءة الوضع السياسي، الأمني، والعسكري. خصوصاً في ظل إصرار العدو الإسرائيلي على مواصلة عمليات الاغتيال والتصفية لقيادات حزب الله. هناك إصرار إسرائيلي واضح على “استئصال” الحزب من المعادلة، بالنظر إلى حرب “الاجتثاث” التي يقودها ضد قياداته. والأكثر إجراماً من ذلك هو استهداف كل فرق الإسعاف والانقاذ والفرق الطبية، وخصوصاً تلك التي سعت على مدى ساعات للتوجه إلى مكان استهداف رئيس المجلس التنفيذي للحزب السيد هاشم صفي الدين. مَنَع الإسرائيليين أي فريق إنقاذ من التحرك. فيما بقيت المعلومات متضاربة إلى حدود بعيدة حول المشاركين في الاجتماع. فمعلومة أشارت إلى عقد اجتماع عسكري أمني مع فريقه الخاص. ومعلومة أخرى تحدثت عن اجتماع لمجلس الشورى لانتخاب أمين عام جديد وكان صفي الدين هو المرشح الأبرز لخلافة السيد حسن نصر الله.
يفوق الإجرام الإسرائيلي كل التوقعات. أما الهدف السياسي والمغطى دولياً فهو إنهاء حالة حزب الله العسكرية، وإنهاء جيل ارتكزت حياته على مواجهة إسرائيل وفرض وقائع عسكرية وسياسية معينة، جلّ ما يريده الإسرائيليون الخروج منها لإعادة فرض أمر واقع مختلف. وهو ما يسمّونه بإنهاء مرحلة وطي صفحتها مع شخصياتها ورموزها تأسيساً لمرحلة جديدة. المشروع أخطر بكثير مما يمكن للمرء أن يتصوره. حجم الغطاء الدولي والدعم الموفر لإسرائيل كبير جداً. ففي موازاة الغارات وعمليات الاغتيال، يصرّ الإسرائيليون على توسيع عمليتهم البرية في الجنوب، والتي لا أحد يعلم حتى الآن مداها الجغرافي والعسكري والوقائع الأمنية التي يراد فرضها. وذلك يتأكد أكثر مع ما يتسرب من الولايات المتحدة حول بقاء الإسرائليين لفترة معينة في الجنوب.
الأكيد أن كل المسارات الديبلوماسية والتفاوضية الجدية متوقفة. يمكن لذلك أن يتأكد من الرسائل الواضحة التي أوصلها وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى المسؤولين اللبنانيين حول عدم الفصل بين جبهة لبنان وجبهة غزة. لا ينفصل ذلك عن التسريبات الأميركية التي أشارت إلى أن الحل الديبلوماسي لم يعد مطروحاً على الطاولة بعد التصعيد العسكري الذي حصل، وهو يعني منح إسرائيل ضوءاً أخضر علنياً لمواصلة عمليتها وتحقيق أهدافها. لا سيما أن مصادر ديبلوماسية غربية تكشف أنه في جلسة مغلقة لمجلس الأمن الدولي عقدت يوم الخميس الفائت وعندما حاولت فرنسا طرح فكرة خفض التصعيد ووقف النار، لم يكن هناك تجاوب أميركي مع إشارات واضحة حول دعم واشنطن لإسرائيل في سبيل تحقيق أهداف عملياتها. حتى الدول الأخرى لم تبد معارضة ولم تتخذ أي موقف، بينما كان هناك شبه إجماع بين القوى الدولية المختلفة حول وجوب انسحاب حزب الله إلى شمال نهر الليطاني وهو ما يعني ضمناً التطبيع مع العملية الإسرائيلية.
عملياً أصبح كل الكلام للميدان، والذي يواصل فيه حزب الله قتالاً شرساً في الجنوب ولا سيما في خط الدفاع الأول، أي في القرى الأمامية والمتاخمة للشريط الحدودي. ذلك الخط تتولى القتال فيه مجموعات من فرقة الرضوان، بينما يسعى الإسرائيليون إلى كسر هذا الخط الدفاعي لتحقيق خروقات وتقدّم من خلال بعض العمليات الالتفافية. أيضاً هناك خط دفاع ثانٍ بمحاذاة نهر الليطاني، أما خط الدفاع الثالث فهو شمال النهر.
يواجه الإسرائيليون صعوبة بالغة في اختراق خط الدفاع الأول، ويتكبدون خسائر كبيرة، ويحاولون قطع طرق الإمداد بين هذا الخط والخطين الثاني والثالث من خلال استهداف الطرقات وتقطيع الأوصال. يعتمد الإسرائيليون استراتيجيات عسكرية متعددة، بعضها محاصرة رقعة القتال في بقعة جغرافية معينة، لتأمين حماية من النار لخطوط أخرى يريدون التقدّم عبرها. وهذا ضمن استراتيجيتهم القتالية في القطاع الغربي، أو الأوسط أو الشرقي.
إلى جانب الهدف الإسرائيلي في إبعاد حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، هناك هدف آخر من هذا الدخول البري وهو اكتشاف أنفاق الحزب ومخازن الصواريخ، والعمل على تصويرها. في المقابل يواصل حزب الله عمليات إطلاق الصواريخ باتجاه مستوطنات الشمال، صواريخه تطال حيفا وصفد وغيرهما. ما يعني أن الحزب قادر على تنفيذ المزيد من العمليات التي تهدد المستوطنات وتمنع الإسرائيليين من تحقيق هدفهم وهو إعادة السكان إلى منازلهم.
لا قدرة على التنبؤ الفعلي حول ما يريد أن يفعله الإسرائيليون وإلى أي مدى سيتقدمون في الأراضي اللبنانية بعد توسيع العملية البرية، إذ هناك نقاشات كثيرة ما بين حصر المعركة في جنوب نهر الليطاني، أو الوصول إلى شماله، بينما هناك من يستذكر تصريحات لمسؤولين إسرائيليين بأن حدودهم تبلغ “الليطاني”. في المقابل هناك معطيات تتحدث عن نية الإسرائيليي تثبيت نقاط عسكرية جنوب النهر، والتقدم نحو شماله.
هناك احتمالات عديدة مطروحة، إحداها أن تتركز العمليات العسكرية في جنوب نهر الليطاني، وفق ما يسميه الإسرائيليون “عمليات التنظيف”، وفتح مسار مع المجتمع الدولي لتطبيق القرار 1701 بشكل كامل وواضح، ما يعني حاجتهم للعودة إلى التفاوض ولكن بعد فرض أمر واقع عسكري. الاحتمال الثاني أن تعمل إسرائيل على فرض منطقة عازلة وآمنة، تكون المشاكل حولها مشابهة تماماً للصراع الذي فتح حول محور فيلاديلفي (صلاح الدين) لأنهم يعتبرون أنه لا يمكنهم الوثوق بأي جهة لضمان أمنهم، لا سيما أنهم يريدون تصوير الأنفاق والأسلحة والصواريخ لما سيسمونه “فضائح” لقوات اليونيفيل التي لم تنجح في منع إدخال الأسلحة. وبحال أصر الإسرائيليون على إبقاء نقاط مراقبة ثابتة تشبه ما جرى في فيلاديلفي يعني العودة إلى حقبة الثمانينيات والتسعينيات.