كتب حسن الدر في “اللواء”:
بلغ رئيس وزراء العدو الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو» قمّة الانتشاء والغرور والعنجهيّة بعد سلسلة النّجاحات التّكتيكيّة الّتي حقّقها في غزّة ولبنان. ويتّجه بخطى واثقة نحو توجيه ضربة «دقيقة وقاتلة» لإيران حسب تعبير وزير حربه «يوآف غالانت» بنيّة تغيير الشّرق الأوسط بعدما غيّر قبل أيّام اسم حربه من «السيوف الحديديّة» إلى «حرب القيامة»..
وكان اغتيال السّيّد حسن نصرلله الطّريق إلى تغيير الشّرق الأوسط لما يمثلّه السّيّد الشّهيد من وزن نوعي ليس في لبنان فقط، بل على امتداد ساحات محور المقاومة، وهو الخطّ الأحمر العريض الّذي دفع إيران إلى تحسّس خطورة الموقف بعدما مارست أقصى درجات ضبط النّفس في المراحل السّابقة بهدف تقطيع الوقت إلى حين الانتخابات الأميركيّة، لكنّ نجاحات «نتنياهو» أغرت الأميركيين للانخراط بشكل أكثر وضوحاً في الحرب، أقلّه في إعطاء «إسرائيل» الضّوء الأخضر في حربها على لبنان وإغلاق أبواب التّفاوض رغم موافقتها، قبل اغتيال السّيّد، على هدنة الأسابيع الثّلاثة، علماً بأنّ أداء الأميركيين خلال عام الحرب على غزّة يوحي بأنّهم، منذ البداية، كانوا شركاء أساسيين في الحرب ولعبوا خلالها سياسة الخداع الاستراتيجي، إعلاميًّا وديبلوماسيًّا، وقد نجحوا فيها.
المطّلع على أسرار تفاوض الرّئيس نبيه برّي مع الأميركيين والغربيين خلال عام يدرك بأنّ برّي كان يتعامل بحذر مع رسائلهم، وكان متيقّناً من انتقال آلة الحرب من غزّة إلى لبنان، وكان يصرّح بذلك لزوّاره منذ اليوم الأوّل للحرب، وكان يقول «هذه حرب وجود بالنّسبة لإسرائيل والمقاومة» وعلى ذلك بنى كلّ تحرّكاته، لكن، لم يكن في حساباته شهادة السّيّد حسن نصرلله في بداية العدوان على لبنان!
ولأنّ الرّئيس برّي يعرف ثقل الوزن النّوعي الّذي يمثّله السّيّد نصرلله، ويعرف ما لحضوره من ضمانة وطنيّة وإسلاميّة، ولأنّه خبر الحرب والسّياسة على مدى عقود فإنّه يتصرّف اليوم بهذا القدر من المسؤوليّة الوطنيّة.
ومن يعرف الرّئيس نبيه برّي عن قرب يعرف طبيعة العلاقة المعقّدة الّتي تجمعه بالسّيّد، ويعرف بأنّ الجمع بين لبنانيّة برّي وإسلاميّة نصرلله تحتاج كثيراً الإبداع السّلوكي الّذي يتعذّر دوزنته لولا فائض الحبّ الّذي يجمع الرّجلين، وتجربة العقود الثّلاثة الّتي مرّت باستقرار رهيب رغم الاختلافات العميقة في كثير من المقاربات خير دليل على البُعد الاستراتيجي الّذي يجمع الكبيرين، ففي حالة الاتّفاق الاستراتيجي يذوب تأثير الافتراق التّكتيكي مهما كان كبيراً.
أمّا وقد رحل السّيّد حسن نصرلله شهيداً على طريق القدس، في ذروة الحرب وفي مقرّ قيادتها في الضّاحية الجنوبيّة لبيروت، فقد دخل تاريخ الكبار الّذين يصعب تكرارهم، قائداً استثنائيًّا شجاعاً ثابتاً على مواقفه حدّ القتل دونها، استشهد السّيّد وهو يعلم بأنّ دمه ثمن لموقفه، فتحدّى وقال في آخر خطاب له: «افعلوا ما شئتم» ردًّا على تهديد واضح بقتله، فنفّذ ما كان يردّده دائما: «هيهات منّا الذّلّة» سائراً على درب جدّه الحسين ابن علي عليهما السّلام، ومن هنا يبدأ نقاش آخر حول ما بعد السّيّد.
الوزن النّوعي الّذي مثّله السّيّد الشّهيد تحوّل إلى ثقل نوعيّ تكفّل بحمله الرّئيس نبيه برّي، قبل أن يعلن نائب الأمين العام لحزب لله الشّيخ نعيم قاسم ثقة الحزب بالرّئيس، ومَن غيره لملمّات كالّتي ننوء بها على مشارف شرق أوسط جديد أراد نتنياهو لبنان معبراً لتحقيقه!
المسألة أكثر تعقيداً من انتماء الرّجلين الفطري إلى ذات العقيدة الدّينيّة والسّياسيّة والنّضاليّة، إنّها أمانة دم السّيّد ومواقفه، وأمانة مليون وثلاثمائة ألف نازح، وأمانة بلد على شفا الدّمار، وبالأصل هي أمانة الإمام موسى الصّدر الّتي حملها برّي في طليعة شبابه النّضالي وحفظها منذ أكثر من 46 عاماً..
بعد تغييب الإمام موسى الصّدر عن ساحة جهاده كان نبيه برّي في بدايات عمله السّياسي، ولم يكن في حسابه البتّة أن يستلم ذات يوم حركة ونهج أستاذه ومعلّمه وملهمه، وبعدما تراكم الزّمان وأحداثه، وتشابكت التّعقيدات المحلّيّة والإقليميّة والدّوليّة في وعلى لبنان، استشهد السّيّد حسن نصرلله، وهو صاحب رؤية ومشروع وحامل إرث جهادي ممتدّ لأربعة عقود.
أمانة السّيّد الشّهيد في توقيتها وظروفها لا تقلّ شأناً عن أمانة السّيّد المغيّب، فالسّيّد الشّهيد كان شريك الأخ الأكبر في حمل جزء من أمانة السّيّد المغيّب وهو الجهاد العسكري والثقافي ضدّ العدو الصّهيونيّ.
يستطيع رئيس المجلس ضبط انفعالاته، وهو المتربّع على 86 عاماً قضى ثلثيها في العمل الحزبي والسّياسيّ والجهادي، ويستطيع تمرير ابتسامة بين زحمة المتابعات اللّحظويّة لأحوال الجبهتين: الدّاخليّة المشرّفة بالوحدة الشّعبيّة، والحدوديّة المشرّفة بصمود المقاومين وبطولاتهم الاستثنائيّة، ولكنّها ابتسامة تخرق جدار القلق البادي على محيّاه، وفي عينيه الّلتين تتجوّلان في وجوه المحيطين به ألف فكرة وخاطرة وذكرى وحادثة، وإذا عمّ صمت قصير راحت عيناه بعيداً في الرّواق حيث يروح ويجيء مثقلاً بكلّ تلك الأزمات والمتابعات.
أمّا الخيارات فأسهلها ما ضيّقتها «إسرائيل» علينا: الحرب أو الاستسلام، فلا مكان للاستسلام في قاموس نبيه برّي وهو ابن أبي المقاومة الّتي أذلّت «شارون» على أعتاب بيروت في معركة خلدة الخالدة عام 1982، يومها كنّا قلّة فقيرة إلى السّلاح لكنّها غنيّة بالإيمان بلله وتعاليم موسى الصّدر، وتلك الـ «لا» الّتي قالتها ثلّة من «المجانين» أسّست لهزيمة الجيش الّذي لا يقهر وراكمت قوّة صار من الجنون التّخلّي عنها مهما بلغت التّضحيات وعظمت التّحدّيات، ونبيه برّي نفسه هو الّذي أفتى يومها بقتال «إسرائيل» وقال: «لن يدخلوا بيروت إلّا على جثّتي»، ولو كان في حسابنا الإذعان للعدو لما خاض الرّئيس برّي جبهة الإسناد السّياسي من عين التّينة على مدى عام كامل، خصوصاً في بداية عمليّات الاسناد العسكري في الجنوب، فقد انهالت عليه التّهديدات من مختلف جبهات إسناد «إسرائيل» ولم يعطهم ما يطلبونه اليوم.
اليوم نحن أقوى بما لا يقارن، بفضل تلك الـ «لا»، رغم الضّربات القاسية الّتي تلقّاها حزب لله في الأسابيع الأخيرة.
أمّا عندما تفتح أميركا باب التّفاوض فالخيار الأوّل والأوحد الآن هو إلزام «إسرائيل» بما التزمت به مع عشر دول عربيّة وغربيّة والّتي تقضي بهدنة لمدّة 21 يوماً في لبنان وغزّة وبدء مسار سياسيّ لتطبيق القرارات الدّوليّة ذات الصّلة.
وكلّ ما يدور حول الملف الرئاسي يقف عند التّوافق على شخصيّة تحظى بـ 86 صوتاً وهو مطلب الرّئيس نبيه برّي منذ اليوم الأوّل وكان الحوار، من وجهة نظر برّي، هو السّبيل الوحيد للتّوصّل إلى الاتّفاق على شخصيّة توافقيّة، وقد تنازل رئيس المجلس عن هذا الممر الطّبيعي تسهيلاً للوصول إلى المبتغى، ومن لديه آليّة أخرى أو شخصيّة قادرة على جمع الأصوات اللّازمة فليقدّمها.
لا شكّ بأنّ ما يمرّ به لبنان والمنطقة غير مسبوق في التّاريخ الحديث، على الأقل منذ نشأة الكيان الغاصب، ولا شكّ أيضاً بأنّ الرّئيس نبيه برّي اليوم هو صمّام الأمان أكثر من أيّ وقت مضى، وهو، بالتّجربة التّاريخيّة، نعمة وطنيّة يجب الحفاظ عليها وملاقاتها من قبل باقي الأفرقاء في منتصف الطّريق لمواجهة خطر وجوديّ حقيقي يحدق بلبنان كلّ لبنان، فلا تخافوه بل خافوا عليه من جنون نتنياهو الّذي تخطّى كلّ الحدود والسّقوف والخطوط!
وفي سياق الحراك الدّاخلي ومطالبة بعض القوى بتطبيق القرار 1559 يقول الرّئيس نبيه برّي لزوّاره: القرار 1559، ينذكر وما ينعاد، انتهى بصدور القرار 1701 الّذي أعددته مع «دافيد وولش»، وعن تصعيد الجبهة يقول: الميدان يؤثّر في التّفاوض والحل، وعلى الإسرائيلي أن يعلم بأنّ احتلال الجنوب ليس نزهة..
وإذا كان في خاطر أحد ما أن يتعامل مع طائفة كبرى على أساس أنّها هزمت فعليه الانتظار قليلاً، ففي الميدان رجال أعاروا لله جماجمهم ووتدوا في الأرض أقدامهم وهم ينظرون إلى أقصى القوم لا يهابون موتاً ولا يخافون نزالاً وخلفهم أخ أكبر من كلّ الضّغوط السّياسيّة والمكائد الديبلوماسيّة، حمل أمانة الصّدر وحفظها وسيحفظ أمانة نصرلله ويحفظها..