تحوّل ملف اللاّجئين اللبنانيين، إلى العراق فرارا من الحرب في بلادهم إلى مدار مزايدة سياسية بدأت بجرّ الملف ذي الطبيعة الإنسانية نحو مربّع الطائفية الحاضرة بقوّة في البلد المحكوم بنظام سياسي تقوده بشكل رئيسي أحزاب دينية وقائم على المحاصصة بين المكونات مختلفة الانتماء العرقي والديني والطائفي.
وفتح سخاء الحكومة العراقية إزاء هؤلاء اللبنانيين ومرونتها الكبيرة في تسهيل إجراءات دخولهم البلاد وإقامتهم فيها واستعياب أبنائهم في مؤسساتها التعليمية، باب المزايدة حول ما يتوجّب تقديمه إليهم من امتيازات إضافية وصولا إلى المطالبة بتوظيفهم في القطاع العام المترهّل والمتخم أصلا بأكثر من أربعة ملايين موظف تستهلك رواتبهم ما يقارب ثلثي موازنة الدولة.
كما فتح الباب للمقارنة بين طريقة التعامل مع اللاجئ اللبناني، وطريقة التعامل مع النازح العراقي من مناطق شمال وغرب العراق أثناء الحرب ضد تنظيم داعش بين سنتي 2014 و2017، عندما مُنع النازحون من مناطق مثل محافظة الأنبار أحد مواطن أبناء الطائفة السنية حتى من مجرّد التوجّه إلى العاصمة بغداد فضلا عن محافظات جنوب البلاد.
وأغفل مقترح توظيف اللبنانيين الصادر عن رئيس مجلس محافظة النجف غيث الكلابي حقيقة أن أعدادا هائلة من الشبان العراقيين بمن فيهم خريجو الجامعات يعانون البطالة ولا يزال الكثير منهم يخرجون إلى الشارع للمطالبة بالوظائف.
وطلب الكلابي في كتاب رسمي وجّهه إلى مجلس النواب “الإيعاز للوزارات للنظر في تعيين الكفاءات من اللاجئين اللبنانيين بصفة عقود بعد إجراء الاختبارات الضرورية اللازمة، وحسب الضوابط المعتمدة”، وعزا سبب طلبه إلى “وصول عدد من أصحاب الكفاءات والاختصاصات المختلفة ومنها المجالات الطبية الدقيقة” ضمن اللاجئين اللبنانيين الذين بدأوا بالتوافد على العراق.
واعتبرت جهات عراقية أنّ الدعوة إلى توظيف اللبنانيين تتضمن دعوة مبطّنة إلى توطينهم في العراق، وحذّرت من تسييس ملف اللاجئين ذي الصبغة الإنسانية بالدرجة الأولى.
كما أثارت الشكوك بشأن وقوف دوافع سياسية ذات خلفيات طائفية وراء مثل تلك الدعوات، من زاوية أنّ اللاجئين اللبنانيين الواصلين بالفعل والمتوقّع تدفق المزيد منهم هم من جنوب لبنان موطن حزب الله الشيعي الذي يتقاسم مع أبرز الأحزاب والفصائل الحاكمة في العراق انتماءها الطائفي وارتباطها الكبير بالمحور الإيراني.
وتوجّه اللاجئون القادمون من لبنان نحو مناطق وسط وجنوب العراق حيث المَواطن الرئيسية لأبناء الطائفة الشيعية ومدنهم التي تضمّ أقدس رموزهم الدينية مثل مدينتي النجف وكربلاء.
وراجت خلال الأيام الماضية أخبار بشأن وجود توجّه نحو توطين اللبنانيين في مناطق بشمال بغداد مختلطة طائفيا وأبرزها محافظة ديالى التي كثيرا ما حامت الشكوك بشأن عمل قوى شيعية عراقية على تغيير تركيبتها السكانية حتى تتحوّل إلى محافظة شيعية بالكامل.
لكن السلطات الرسمية العراقية نفت وجود مثل ذلك التوجّه ووصفت الأخبار الرائجة حوله بالإشاعات. وقالت على لسان المتحدث باسم وزارة الهجرة علي عباس جهانكير إنّ غالبية العوائل الواصلة من لبنان توجّهت نحو كربلاء والنجف نظرا لوجود بنى تحتية في المدينتين مؤهلة لاستعياب أعداد كبيرة من الوافدين كونهما تستقبلان سنويا حشودا من الزوار الشيعة القادمين من داخل العراق وخارجه لزيارة الأماكن المقدّسة للطائفة الشيعية، مؤكّدة أن عدد اللبنانيين الذين توجّهوا إلى ديالى ضئيل جدا وجاء بناء على اختيارات شخصية استندت إلى وجود علاقات خاصة مع بعض سكّان المحافظة.
وأظهرت حكومة رئيس الوزراء العراقي سرعة فائقة ومرونة كبيرة في التفاعل مع قضية اللجوء التي تفجّرت في لبنان بسبب الحرب بين إسرائيل وحزب الله، وذلك استجابة لدعوة المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني إلى “القيام بما يساهم في تخفيف معاناة اللبنانيين وتأمين احتياجاتهم الإنسانية”، من جهة، ورغبة في امتصاص غضب الميليشيات الشيعية المهدّدة بالانخراط في الحرب إلى جانب الحزب الذي تشاركه الانتماء إلى محور المقاومة بقيادة إيران بما سيكون لذلك من تبعات خطرة على العراق، من جهة ثانية.
ومنذ الأيام الأولى لتصعيد إسرائيل للحرب في لبنان آخر الشهر الماضي وجه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني السلطات العراقية بتسهيل دخول اللبنانيين إلى البلاد. وقال مكتبه في بيان إن وزراة الداخلية تلقت تعليمات من رئاسة الحكومة “للتنسيق مع السفارة اللبنانية في العراق بشأن منح المواطنين اللبنانيين الراغبين بالمجيء إلى العراق وثائق سفر سريعة”.
ولاحقا وجه وزير التربية والتعليم محمد عبداللطيف باتخاذ إجراءات عاجلة لاحتضان الطلبة الوافدين من لبنان تجنبا لحرمانهم من الدراسة.
وسرعان ما أعادت هذه المعاملة التفضيلية للبنانيين ما كان أثير خلال سنوات الحرب ضدّ داعش من محاذير حقوقية وإنسانية متعلّقة بسوء معاملة النازحين الذين فرّوا من مناطقهم بسبب الحرب واعتداءات التنظيم الدموي.
لكنّ هؤلاء النازحين اصطدموا بسوء معاملة الميليشيات الشيعية التي شاركت آنذاك بفاعلية في تلك الحرب وتمكّنت من دخول مدن السنّة ومناطقهم.
ومُنع النازحون من التوجّه إلى بغداد وباقي مناطق وسط وجنوب البلاد، كما نصبت الميليشيات نقاط التفتيش على الطرقات بين مناطقهم الأصلية ووجهات النزوح، وأخضعتهم لعمليات تفتيش دقيقة ومرعبة في الكثير من الأحيان واحتجزت الكثير منهم بدعوى أنهم عناصر من داعش بصدد التسرّب إلى مناطق أخرى وسط صفوف النازحين.
الحكومة العراقية أظهرت سرعة فائقة ومرونة كبيرة في التفاعل مع قضية اللجوء التي تفجّرت في لبنان
كما شاركت الميليشيات نفسها في إجبار سكان بعض المناطق على النزوح القسري كما هي الحال بالنسبة لسكان منطقة جرف الصخر بمحافظة بابل جنوبي العراق والذين احتلت الفصائل الشيعية المسلحة منطقتهم واستقرت فيها ولا تزال إلى اليوم تمنعهم من العودة إلى ديارهم.
وواجه النازحون العراقيون في المناطق التي فروّا إليها صعوبات كبيرة بسبب شح المساعدات التي حصلوا عليها من الدولة وبطء وصولها في حال توفّرها، وبسبب ضعف الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وصحة وتعليم وانعدامها في الكثير من الأحيان.
وعلّق الخبير العسكري العراقي أعياد الطوفان على الاختلاف في معاملة اللاجئين اللبنانيين والنازحين بالقول في تدوينة على منصة إكس “هربنا من داعش إلى جسر بزيبز منفذنا للعاصمة، ولكنهم أغلقوا الجسر ولم يسمحوا بدخولنا بغداد إلا بكفيل واليوم يفتحون بغداد للنازحين من جنوب لبنان بدون فيزا وجواز سفر ومن غير كفيل ولا كفالة والأكيد ستتحمل الحكومة تكاليف الإقامة والسفر ومن المحتمل أن تصرف لهم رواتب شهرية”.
وجاء ذلك فيما أطقلت دعوة رئيس مجلس محافظة النجف لتوظيف اللبنانيين اعتراضات سياسية وحتى قانونية، حيث لفت الخبير القانوني محمد جمعة في تصريحات لوسائل إعلام محلية إلى أنّ اللبنانيين دخلوا العراق بفيزا سياحية، لذلك لا يحق لهم قانونا العمل في القطاعين العام والخاص و”في حال عملوا فإن ذلك يعتبر مخالفة لقانون الإقامة عقوبتها الإبعاد عن البلاد فضلا عن غرامة قدرها خمسمة ألف دينار عراقي”.
كما نفى جمعة الصفة القانونية عن تقديم المقترح بحدّ ذاته موضحا أنّ عملية اتخاذ القرار في المحافظات هي من اختصاص مجلس المحافظة وتتم بتصويت الأعضاء، وأنّ رئيس أو نائب رئيس المجلس لا يملك حق اقتراح مثل تلك المقترحات لا لوزارات ولا لغيرها.
وذكّر بأنّ “المادة 14 من قانون الموازنة العراقية العامة تنص على عدم وجود تعيينات حكومية للعراقيين للعامين المقبلين، لذلك فالعواطف شيء والقانون شيء آخر، واللبنانيون ضيوف ومعززون مكرمون، لكن العمل فيه ضوابط قانونية”.