كتبت حنان حمدان في “الشرق الاوسط”:
«رعب مطلق لا يمكن وصفه أو التعبير عنه بكلمات». هذا ما عاشته إحدى السيدات التي تقطن في مبنى قريب من المكان الذي استهدفته غارة أمس (الخميس)، والذي يشمل مباني سكنية في منطقة النويري بقلب العاصمة بيروت، حسبما قالت لـ«الشرق الأوسط».
وأضافت: «وقتها، كنت أحضر الطعام في المطبخ، وسمعت ضربة قوية، أشعرتني حينها بأن المستهدف هو المبنى الذي أسكن فيه. كنت أنا وابني (20 سنة) داخل الشقة، ولم أعلم كيف وصلت إليه في ثوانٍ. احتضنته كأني أخفيه في قلبي، ووقفنا في غرفة الجلوس خوفاً من تحطم زجاج الشبابيك والأبواب، وبعد لحظات ملأت صرخات الناس والاستغاثة الفضاء».
وتحكي السيدة المذكورة كيف جمعت بعض حاجياتها في حقيبة صغيرة: «أخذت معي ما أحتاج للنوم لدى إحدى صديقاتي. حجم الدمار في المكان حين نظرت من شرفة منزلي كان هائلاً ومخيفاً. إنها مجزرة بحقنا نحن المدنيين، بكل ما للكلمة من معنى».
وتروي كيف عادت في صباح اليوم التالي لتفقد المكان، وتقول: «لم أتوقع يوماً أن يتمّ قصفنا هنا. فلا مركز تابعاً لأي حزب سياسي، ولم تصل إلي أي تحذيرات أو إشاعات عن وجود أفراد أو أيّ طرف يخص (حزب الله)».
ووفق آخر الإحصاءات الرسميّة، بلغ عدد الضحايا جراء استهداف النويري، 22 قتيلاً و117 جريحاً، وخلّف دماراً هائلاً غيّر معالم الشارع هناك.
نزوح فموت
من بين هؤلاء الضحايا، عائلة محمد حموي المؤلفة من 5 أفراد، إذ توفي هو (56 سنة) وزوجته (54 سنة) وابنه (20 سنة) وابنته (14 سنة)، التي لا تزال في عداد المفقودين، بينما نجا ابنه الأكبر الذي كان خارج المنزل الواقع في المبنى الذي استهدف.
يقول ابن شقيقة محمد حموي لـ«الشرق الأوسط»: «نزح خالي من منزله في حي السلم بالضاحية الجنوبية لبيروت قبل أسبوعين تقريباً، هرباً من القصف المستمر هناك، ليشاء القدر أن يستهدف المبنى السكنيّ الذي نزح إليه، وهو لأحد أقاربنا».
ويضيف: «شكّل خبر استشهاده وعائلته صدمة بالنسبة لنا. حاولنا التواصل معه مراراً وفشلنا، لكننا علمنا بالأمر من ابنه الأكبر الذي كان يؤدي الصلاة في الجامع القريب من هناك لحظة الاستهداف، وتمكن من النجاة». ويختم: «لا يمكن وصف حجم الألم الذي نشعر به».
«شعرنا باقتراب الموت منّا»
وتحكي سيدة مسنة من سكان الحي لـ«الشرق الأوسط»، تفاصيل اللحظات الصعبة التي عاشتها، فتقول: «اعتقدنا أن عمرنا قد انتهى، فبدأنا بتلاوة الشهادة. كنت أود فقط الاطمئنان إلى حال إخوتي وأخواتي الذين نزحوا من الضاحية الجنوبية لبيروت بسبب الحرب، وسكنوا في المبنى المجاور، وقدّر لهم أن يعيشوا تجربة الشعور باقتراب الموت منّا مرة أخرى».
وتبكي السيدة وتقول: «كنت حتّى يوم أمس، أشعر بالأمان هنا. فقدنا اليوم هذا الإحساس، لكن ليس باليد حيلة، سنبقى في منازلنا ولن نغادرها، إذ لا خيار آخر لدينا».
وتخبرنا أكثر عن كيف كان الشارع قبل استهدافه مفعماً بالحياة، لكنه هادئ لا مشاكل فيه ولا تهديدات، «أما اليوم فالمشهد مختلف تماماً. إننا نعيش الحرب بكل تفاصيلها وعبثها وقهرها».
في المكان أيضاً، أناس كثر أتوا لتفقد أحباب وأقارب لهم. تمر في الشارع سيدة ستينيّة أتت من منطقة الصنائع في بيروت لتطمئن على حال أقاربها، وتقول إنها باتت تخاف الوجود في هذا الشارع، لكنها مضطرة لفعل ذلك، خصوصاً أن صوت مسيرة الـ«MK» لا يفارق المكان، ما يعني أن هناك هدفاً آخر لإسرائيل لا يعلم الناس متى سيُضرب وأين سيكون، بينما اختار البعض الخروج من المكان تحسباً لأي طارئ، لذا حملوا حقائبهم وغادروا إلى مكان يعتقدون أنه سيكون آمناً أكثر.
وقد ذهب بعضهم إلى رفض الحجة الإسرائيلية في تبرير المجزرة التي حصلت والقائلة إنها استهداف للقيادي في «حزب الله» وفيق صفا، بدليل أنه لم يكن يوجد في المكان، حسبما يقولون، في حين قال أحدهم: «إن وجود مسؤولين في (حزب الله) أمر غير مقبول في منطقة مكتظة سكانياً، ما يعرض حياة المئات للخطر في حال كان خبر وجودهم حقيقياً، إذ لا يمكن الوثوق بإسرائيل».
وحتّى ساعات الظهيرة، كانت فرق الدفاع المدني المتخصصة في عمليات البحث والإنقاذ لا تزال تنفذ مهام البحث ورفع الأنقاض والمسح الميداني الشامل في المكان، وفق ما أكده عناصر من الدفاع المدني لـ«الشرق الأوسط».
«حاولت أن أحمي رأسي»
أمّا سوق النويري فإنها شبه خالية إلّا من بعض المارة وأصحاب المحال التجاريّة، الذين قدموا إلى المنطقة لتفقد مصالحهم والاطمئنان بأنه لم يصبها أيّ مكروه.
وفي آخر الشارع الذي يصل إلى مكان الاستهداف بالسوق، روى أحد الخياطين لـ«الشرق الأوسط»، كيف حصل الاستهداف أثناء وجوده في محله: «كانت لحظات مخيفة، حاولت أن أحمي رأسي من الزجاج الذي تناثر في المكان، قبل أن أستوعب الحدث وأخرج لألقي نظرة على مكان الغارة الإسرائيلية. لم أٌصَب بأذى جسدي والحمد لله، لكننا جميعاً متألمون».
واجهة محل الخياطة تضررت كغيرها من المحال التجاريّة هناك. ويحاول صاحب المحل لصقها كي تبقى متماسكة ولا تقع بالكامل، فتسقط كاملة على رأسه هذه المرة حسبما يخبرنا، ويضيف: «هكذا أقوم بتدعيمها، إذا قررت إسرائيل معاودة قصفنا، وحججها بضرب المدنيين العزل باطلة».
ويساعد الخياط في ذلك جاره الستيني الذي يقطن في مبنى مجاور للاستهداف، والذي يقول بدوره لـ«الشرق الأوسط»: «رعب كبير عشناه بالأمس، يشبه إلى حد كبير ما شعرنا به لدى انفجار مرفأ بيروت. لا تشبهه قوة، ولكنه أثّر في نفوسنا. هذه الظروف لم نعِشها في بيروت منذ زمن طويل». ويتابع: «لكن مهما فعلت إسرائيل فلن نذهب ولن نغادر منازلنا».
ويتذكر الرجل فترة الحرب الأهلية ما بين 1975 و1990، فيقول: «السيناريو نفسه يتكرر اليوم، وسنورثه لأولادنا. نحن لن نغادر، لكن من يستطيع السفر من الجيل الجديد فليفعل ذلك. لبنان وطن دائم للحروب، وهذا أمر محزن وبشع للغاية».
نازحون مرعوبون أيضاً
وعلى مقربة من المكان المستهدف، توجد المدرسة العاملية التي تحولت بفعل العدوان الإسرائيلي على لبنان إلى مركز إيواء لعدد كبير من النازحين الذين قدموا من الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت، وقد عاشوا لحظات الاستهداف الذي طال المنطقة.
يروي النازح حسن سرور، ابن بلدة البازورية الجنوبية (قضاء صور)، وهو يقيم وعائلته بالمدرسة منذ نزوحه في 23 أيلول الماضي، لحظات القصف الأولى: «كنت أجلس أنا وأولادي في غرفتنا التي تقع بالطابق الرابع من المدرسة. للوهلة الأولى شعرت بأن إسرائيل تستهدفنا، ولم تمر سوى لحظات حتى نزلنا إلى الشارع ومن ثمّ دخلنا الجامع الذي يقع على مقربة منا، وبقينا هناك نحو ساعتين، قبل أن نعود إلى مكاننا».
ويضيف: «فور وقوع المجزرة، انتشرت روائح قوية في المكان. ولا نعلم بماذا قصفونا. تمّ توزيع كمامات علينا في المركز، خصوصاً بعد أن اندلع حريق في أحد خزانات المازوت بسبب الغارة واختلطت روائح القصف والمازوت».
وقد فضل بعض النازحين الانتقال إلى مراكز إيواء في الشمال. لكن رغم الخوف الذي عاشه حسن يقول: «سأبقى هنا بانتظار التطورات وما ستؤول إليه الأمور، ولكن في حال التصعيد فإنني سأغادر إلى أحد مراكز الإيواء في الشمال أو سأخرج إلى سوريا، حيث توجد ابنتي التي نزحت من الضاحية الجنوبية إلى هناك».