كتب أحمد الايوبي في “اللواء”:
سجّل الرئيس نجيب ميقاتي الاصطدام الرسمي العلني الأول مع النفوذ الإيراني بعد انكشاف كلّ أشكاله العسكرية والسياسية والدبلوماسية وصولاً إلى إعلان رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف استعداد طهران للتفاوض مع فرنسا بشأن تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1701 ، الأمر الذي دفع ميقاتي المعروف بهدوئه المفرط أن يخرج عن صمته ويرفض هذا الموقف ويطلب من وزارة الخارجية استدعاء القائم بالأعمال الإيراني للاستفسار والاحتجاج على هذا التدخّل السافر في القرار اللبناني، وهذا ما يدفعنا إلى البحث في حقيقة ومآلات السيطرة الإيرانية على لبنان وكيف يجب التعامل معها.
كشفت الأحداث المتسارعة الحقيقة التي طالما عمل «حزبُ لله» على إخفائها من خلال التلطّي بالهوية اللبنانية وهي أنّ الحرس الثوري الإيراني هو صاحب القرار الفعلي والحقيقي وليس قيادة الحزب التي لم تكن سوى واجهة شكلية من لوازم المشهد السياسي والإعلامي ومن دواعي الاختراق السياسي والأمني لجميع المواقع والمراكز، بدءاً من رئاسة الجمهورية وليس انتهاءً بحرّاس الأحراج.
بعد اغتيال الأمين العام لـ«حزب لله» حسن نصرلله وبقية القيادة المحلية للحزب سارع مرشد الثورة الإيرانية علي الخامنئي إلى تعيين سردار فلاح زاده قائداً مؤقتاً لحزب لله، وإلى تعيين محمد رضا شيباني السفير الايراني السابق في لبنان كقائم بأعمال السفارة الإيرانية في بيروت (وهو يشغل منصب الممثل الخاص لوزير خارجية إيران لشؤون غرب آسيا) وذلك لملء الفراغ في قيادة الحزب السياسية والعسكرية، وهذا يفسِّر لماذا كان السفير مجتبى أماني من ضحايا تفجيرات أجهزة «البيجر»، فمن مهمات السفير الإيراني في بيروت القيام بالمهمات القيادية العسكرية والسياسية معاً.
وبسقوط الواجهة اللبنانية في «حزب لله» انكشف الوجه الإيرانيّ المباشر الذي يتحكّم باللعبة الداخلية ويسلب الإرادة الوطنية ويدير الموارد المالية ويستحوذ على مقدّرات الوزارات والمؤسسات لصالح مشروعه الخارجي.
لا يذكر التاريخ استعماراً بمكر النفوذ الإيراني الذي استغلّ هوية الشيعة اللبنانيين ليحوِّلهم إلى جالية إيرانية بكل الأبعاد العقائدية والفكرية والسياسية والاجتماعية والتربوية والإعلامية، حتى تحوّل مجتمع الموالين لهم إلى (أمة «حزب لله») التابعة للوليّ الفقيه صاحب مشروع التمهيد لصاحب الزمان المهدي المنتظر.
لذلك، فإنّ النضال السياسي في لبنان يجب أن يتركز على عناوين وعناصر واضحة، أهمها:
– سقوط الهوية اللبنانية لـ«حزب لله» بعد أن كان الدور الإيراني يريد لها أن تكون متقدِّمة، لكن بوجود مشرف وقائد إيراني مؤقت على رأس عسكر الحزب يسقط الجزء السياسي من هوية الحزب اللبنانية، ليبقى الجانب التقني الذي لم يعد له قيمة بعد أن استغلّته طهران لجرّ البلد إلى حرب مدمِّرة لصالح مفاوضاتها مع الأميركيين.
– أنّ النفوذ الإيراني أصبح معلناً، جسّدته المواقف الإيرانية الوقحة التي استنفرت الرئيس ميقاتي سواء على لسان قاليباف أو بالفعل على الأرض، من خلال إصرار الحرس الثوري الإيراني على مواصلة القتال في الجنوب تحت عنوان «جبهة الإسناد» رغم كل التداعيات الكارثية التي أدّت إليها.
واقع الحال أنّ المستوى السياسي في «حزب لله» بات معزولاً عن المستوى العسكري الذي يعاني من فقدان القيادة والسيطرة، ويعمل ما تبقّى من منظومته تحت الإدارة المباشرة للحرس الثوري، وحتى نائب الأمين العام للحزب ليس قادراً على تأكيد أي قرار سياسي أو أمني، بينما لا يملك الرئيس نبيه بري أيّ قناة اتصال مع الحزب، وكذلك الرئيس ميقاتي بالطبع، وهذا ما يجعل مساعي الدولة اللبنانية محصورة ومحدودة، لكن الواضح أنّ تطورات الأوضاع وضغط تسارع الأحداث سيفرض على الرئيس بري موقفاً مشابهاً لموقف الرئيس ميقاتي اليوم في وجه الغطرسة الإيرانية، ولو من جانب واحد لأنّ حجم التداعيات سواء فيما يخصّ مواصلة العدو الإسرائيلي تدمير الجنوب والبقاع والضاحية وغيرها، أو فيما يتعلّق بواقع النزوح الذي يُثقِلُ كاهل بري بشكل خاص وهو لا يملك حلاً لهذا النزيف الشيعي الكبير.
إنّ تطبيق القرارات الدولية: 1701 و1559 و1680 لم يعد قابلاً للتفاوض من أجل إنقاذ لبنان، وليس هناك مجال للمجاملات السياسية، وكما وقف «تكتل الاعتدال» إلى جانب الرئيس ميقاتي في موقفه من الاعتداء السياسي الإيراني على لبنان، فإنّ على هذا التكتل وغيره الانتقال إلى المساحة السيادية الكاملة، وتجاوز بعض الحساسيات المصطنعة، سواء مع القوات اللبنانية أو الكتائب أو غيرها، فالوقت الآن هو وقت إنقاذ لبنان، هذا إذا أراد هذا التكتل وغيره من المستقلين أن يكونوا في المساحة الوطنية الجامعة التي تؤسِّس لتحرير لبنان من النفوذ الإيراني ومن الاحتلال الصهيوني ولإقامة دولة حرّة وسيدة ومستقلة وعادلة.
كان لافتاً الالتفاف الوطني الواسع حول موقف الرئيس ميقاتي، وكان مهماً أيضاً ما أعلنه نائب الجماعة الإسلامية الدكتور عماد الحوت، عبر منصة «أكس» قائلاً: «وحدها الحكومة اللبنانية، بغياب رئيس الجمهورية، هي المفوّضة، بالتنسيق مع المجلس النيابي، بالتفاوض بإسم الدولة اللبنانية وتحديد ما هو مقبول وما هو غير مقبول.. كل الشكر والترحيب لأي دعم يأتي من أي جهة أخرى، ولكن لا يحق لأي دولة أن تفاوض بإسم الدولة اللبنانية.. كل الدعم للحكومة ورئيسها في اتصالاتهم لوقف إطلاق النار ووقف العدوان الإسرائيلي على لبنان».
وتكمن أهمية موقف الحوت في أنّ الجماعة الإسلامية مشاركة في «جبهة الإسناد» جنوباً وهي تحمل راية دعم حركة حماس في غزة، مع تمسّكها بالتوجه السيادي الذي استندت إليه منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري بشكل خاص.
لا شكّ أنّ موازين القوى تتغيّر وهذا ما سمح للرئيس ميقاتي باتخاذ هذا الموقف العالي السقف وغير المسبوق في وجه إيران، وهذا يوجب على القوى السيادية توحيد الصفوف وتصعيد المواقف الوطنية وإطلاق خطاب يحيّد الطائفة الشيعية عن الاستهداف ويفتح الطريق لها للعودة إلى كنف الوطن والدولة.
ما زال الطريق طويلاً، لكن لا بدّ من سلوكه قبل أن تتقطّع بنا السبل وينتهي لبنان في فوضى تغيير الدول.