كتب منير الربيع في “المدن”:
يقع لبنان بين تضارب في رؤى وإرادات متعدّدة، تتصارع فيما بينها على وقع المواجهات العسكرية المفتوحة. لا أفق حتى الآن لوقف الحرب، لكن الضغوط السياسية تتواصل، ومحطّتها الجديدة تتجلّى بالزيارة التي سيجريها المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين، وتندرج في سياق تقديم عروض واضحة للبنان، كان هوكشتاين قد أعلنها في إطلالاته التلفزيونية الأخيرة، حول تطبيق القرار 1701 مع إدخال تعديلات عليه.
يريد هوكشتاين تلمّس مدى تجاوب لبنان ومسؤوليه مع الضغوط التي تتوالى، بعد محاولات فرض وقائع عسكرية جديدة تفضي إلى واقع سياسي جديد. وتتنامى في لبنان وجهة نظر اقول إن الأميركيين يريدون تغليب الرؤية الإسرائيلية. أبرز هذه الإرادات أو الرؤى المتعارضة، هي رؤية إسرائيل لتغيير المنطقة، رؤية حزب الله لمرحلة الحرب وما بعدها، ورؤية الدولة اللبنانية.
فالإسرائيليون الذين يسعون إلى تغيير كل الموازين العسكرية والسياسية، يريدون ضمانات حقيقية على الأرض، بأنه لن يكون أي خطر وجودي عليهم. وهم لا يريدون استمرار حزب الله بشكله المسلّح في لبنان. يسعون إلى تحقيق بذلك بالقوة العسكرية. ولطالما جرى التحضير لهذا المشروع منذ العام 2006، وتكثفت المحاولات والخطط في العام 2015، عبر الاختراقات التقنية أو البشرية التي تم تحقيقها في صفوف حزب الله. تلك الاختراقات تعني أن الإسرائيليين يعلمون قدرات حزب الله العسكرية الفعلية. وهنا يُفترض أن الخطوات العسكرية التي تتخذها إسرائيل تجري بناء على تقييمات حول قدرات حزب الله العسكرية الفعلية، بما في ذلك التقديرات للمعركة البرية، وما هي الخسائر التي ستتكبدها تل أبيب. ذلك يقود إلى خلاصة بعدم وقف الحرب قبل تحقيق ما تريده من خسائر تلحقها في البنية العسكرية لدى الحزب. ثانياً، يسعى الإسرائيليون إلى قطع خطوط الإمداد، وخصوصاً من سوريا. ويريدون إعادة حزب الله 40 سنة إلى الوراء بقدرات ضعيفة جداً. بعدها، يحصل الانتقال إلى المفاوضات مع الدولة اللبنانية برعاية دولية. وما يتأكد من تسريبات نقلاً عن الإسرائيليين أن المطلوب هو إنهاء سلاح حزب الله، إما أن يتمّ تسليمه بالمفاوضات وتفكيكه، أو إزالته بالحرب. ويعتبر الإسرائيليون أن هذا القرار لا تعارضه أي دولة من الدول الكبرى.
أما حول ما يريده حزب الله، فهو كان واضحاً منذ اليوم الأول، عندما أعلن أن هذه ليست الحرب الوجودية مع إسرائيل بل هي حرب الإسناد، ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي سفنه. هو حالياً في حالة صدمة كبيرة بسبب الضربات التي تلقاها، لكنه لا يزال يمتلك قدرات عسكرية قوية ويراهن على الالتحام البرّي. ولكن على الرغم من حالة الضعف لدى الحزب أمام إسرائيل، ومعرفته للواقع على الأرض ومشاكله الأساسية في سوريا ولبنان، إلا أنه يبقى قوياً جداً بالنسبة إلى الداخل اللبناني، والذي يريد فيه الحفاظ على وضعيته ودوره ومكتسباته. سيحتاج الحزب إلى سنوات لإعادة ترميم ما جرى تدميره، في مواجهة مشروع يريد إخراج لبنان من دور “الساحة المتقدمة للجهاد في سبيل تحرير القدس” ونقله إلى مكان آخر. حسابات كثيرة تتداخل في هذا المجال، لا سيما في انتظار الردّ الإسرائيلي على إيران، والمواقف الإيرانية التي تُظِهر بوضوح نظرتها إلى لبنان كساحة قتال متقدّمة، وصولاً إلى التصريح الجديد لرئيس مجلس الشورى الإيراني محمد باقر قاليباف، حول أن إيران والمرشد هما ركيزة لبنان ومسؤوليه.
ما بين تلك الإرادات المتعارضة أو المتناقضة، تبقى حسابات الدولة اللبنانية. وهي بحاجة فعلية إلى الخروج من هيمنات كثيرة، وتتعرض لضغوط سياسية، عسكرية، اجتماعية، من جهات متعددة ومتناقضة. علماً أن مصلحتها تقتضي إضعاف حالة حزب الله العسكرية، والخروج من معادلة “أنا ربكم الأعلى”، التي كان يمارسها الحزب على الدولة بالاستناد إلى القوة العسكرية. ولكن من دون إحداث خلل داخلي في موازين القوى ومن دون أي محاولة عزل للحزب، خصوصاً أنه لا يمكن للحزب أن يتعرّض لانكسار كبير في الداخل اللبناني، فهو لا يزال يتمتع بقوة أساسية، شعبياً وسياسياً. وانكساره سيكون له تبعات خطرة جداً على السلم الأهلي وعلى المؤسسات وآلية عملها.
إنه صراع طويل عناوينه الحدود الجنوبية للبنان، والتغيير في موازين القوى السياسية. لكنه أيضاً يشتمل على الحدود الشرقية للبنان باعتبارها خطّ الإمداد الفعلي والحقيقي لحزب الله. فدمشق تتعرض لضغوط كبيرة وإغراءات كثيرة، من أجل تطويق حزب الله وإيران. ما يعني أن التحركات العسكرية أو الأمنية أو السياسية، ستطال سوريا بكل حدودها من العراق إلى لبنان، وصولاً إلى الحدود الجنوبية والجولان، وسط أفكار متعددة يتم طرحها مجدداً حول نشر قوات متعددة الجنسيات أو قوات اليونيفيل بصلاحيات معززة على طول الحدود اللبنانية السورية.