Site icon IMLebanon

دعوة لاستعادة العقل في القرارات الوطنية

كتب رياض شـيّا في اللواء:

إنّ مسألة العقل، أو تحكيم العقل، في القرارات الوطنية ليست تحليلاً نظرياً ولا نفسياً ولا فلسفياً لتفوق العقل على باقي مكوّنات الإنسان، وتحديداً على الغرائز والعواطف والمشاعر والانفعالات. فالعقل هو طاقة الإدراك الأولى للإنسان، وبها يمكن استدراك المستقبل وأين تقع المصلحة تالياً. هذه المسألة تفرضها اليوم التطورات الحربية الأخيرة، وما وصل إليه الصراع مع إسرائيل. فالهمجية الإسرائيلية ووحشيتها التي ظهرت في غزة أولاً ومن ثمّ في لبنان، تفرض على اللبنانيين أن يلجؤوا في قراراتهم المطلوبة، وبإلحاح، إلى تحكيم العقل والابتعاد عن العواطف وعن المزاجية. فلا يجب أن يُبعدهما التزامهما العقائدي والديني عن التزامهم الوطني أولاً، كما من المفترض بهم الركون الى العقل في قراراتهم المصيرية كيما تحاكي الواقع ولا تجانب حقائقه ثانياً. وعليه، لا يجب ان يكون هناك أي دور لانفعال أو نزوة أو ميّل في أيّ قرار وطني، سيّما عندما تحمل القرارات الطابع المصيري. فبعد أعمال القتل والدمار والتهجير الإسرائيلية التي طاولت شريحة كبيرة من اللبنانيين ولا تزال مستمرة، وبات الوطن على شفير الانهيار، وبعد استباحة القرار اللبناني لعقدين من الزمن وأكثر، وبعد حرمان اللبنانيين من حقّهم بحياة حرّة كريمة وبدولة مستقلة ذات سيادة كاملة؛ ألا يستحق كل ذلك المبادرة الى العودة الى رحاب العقل ليَهدي أصحاب الشأن ويحكم قراراتهم فيستعيد اللبنانيون أملهم بالحياة؟! ألا يستحق كل ما يجري دعوة المسؤولين ـ رسميين وحزبيين وقادة الرأي ـ لتحمّل مسؤولياتهم والمبادرة بأخذ القرارات الوطنية المطلوبة بحكمة وتعقل وبدون تأخير؟! إنّ الاستمرار في السير على النهج السابق من عدم الجديّة في حمل المسؤولية، وعدم الاكتراث لحياة الناس وحاجاتها، وامتهان الدولة ومؤسساتها وارتهانها، وعدم إدراك موازين القوى في المواجهة الجارية، إنّما يمثل كل ذلك انتحاراّ بكل معنى الكلمة.

هذه الدعوة لتحكيم العقل في القرارات المرتبطة بمصير اللبنانيين ودولتهم، في ضوء التطورات الحاصلة، تأخذ بعين الاعتبار الواقع الهش الذي وصل اليه لبنان بفعل غياب الدولة منذ أكثر من نصف قرن. فالمقوّمات التي يزخر بها لبنان منذ تأسيسه الحديث، ونخصّ منها الرعاية العربية والدولية، هما اللتان سمحتا له بالنمو والاستمرار كدولة مستقلة، ومنعت انهيار كيانه عندما تعرض للهزّات الداخلية والخارجية الكثيرة، ولا سيّما بسبب وقوع لبنان في دائرة الأطماع الإسرائيلية. وكما أثبتت التجارب المستمرة عدم قدرة لبنان على العيش بمعزل عن  هذه المقوّمات، فإنّها برهنت أنّ انقياد لبنان الى محاور تناقض الشرعيتين العربية والدولية، إنّما تحمل الهلاك له ولشعبه. فمنذ قيام الكيان الصهيوني على الحدود الجنوبية للبنان في العام 1948، عملت الشرعيتان العربية والدولية على تعزيز وصيانة رعايتهما للبنان، مؤمّنتان له ضمانة الاستمرار والوقوف على قدميه.

إنّ الشرعية الدولية الممثلة بالأمم المتحدة، التي كان لبنان عضواً مؤسساً فيها، قد تكفّلت برعايته في علاقاته الدولية، وخاصةً في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية. برز دور الأمم المتحدة بدايةً في رعاية توقيع اتفاقية الهدنة اللبنانية – الإسرائيلية في العام 1949، ثم في مجموعة هامة من قرارات مجلس الأمن الدولي لحماية لبنان ومن بينها القرارات 425 و426 و1559 و1680 و1701 وغيرها، كما وانتشار قوات اليونيفيل في جنوب لبنان تعزيزاً لهذه الحماية. أما الشرعية العربية فقد تمثلت برعاية الجامعة العربية، التي كان لبنان أيضاً عضواً مؤسساً وفاعلاً فيها، وتجلّت باتفاق الطائف في العام 1979، الذي أنهى الحرب الأهلية التي اندلعت في العام 1975، والذي يدعو بدوره الى التمسك باتفاقية الهدنة تجاه إسرائيل.

لقد دفع العدوان الإسرائيلي الجاري حالياً بمختلف المراجع المحلية والعربية والدولية، وبصورة شبه شاملة، وعن حق، الى المطالبة بتطبيق القرار 1701 الهام الصادر عام 2006، بغية وقف العمليات الحربية الجارية، ولمنع إسرائيل من احتلالها لأراضٍ لبنانية مرةً جديدة. إلاّ أنّه ومن باب المعرفة اليقينية، تقضي الضرورة للإشارة الى أنّ اتفاقية الهدنة اللبنانية-الإسرائيلية تفوق القرار 1701 أهميةً، سواء لمصلحة لبنان في استمرار التمسك بها، أم لجهة الأمن والاستقرار الدولي في هذا الجزء من العالم الذي تقع في أولى اهتمامات مجلس الأمن الدولي. ففي شهادة للمغفور له الأستاذ غسان تويني، يقول في تقديمه لكتابي -»اتفاقية الهدنة اللبنانية-الإسرائيلية للعام 1949 في ضوء القانون الدولي»، الصادر عن دار النهار للنشر في العام 2003: «يطيب لي – أنا بالذات – أن أؤكد، من زاوية مشاركتي في مداولات مجلس الأمن وجلساته التي تناولت الاجتياح الاسرائيلي عام 1978 ثم عام 1982، أنّ القرارات التي ألزمت إسرائيل والدول العربية عقد اتفاقات الهدنة العربية-الاسرائيلية عام 1948، ثم كرستها عام 1949، هي اليوم، بالنسبة الى لبنان، أهم وأفعل من القرارات 425، 426، 508، 509، الى آخر السلسلة …».

إنّ الأهمية التي تكتسبها الاتفاقية ترجع لأسباب متعددة يندرج أكثرها في كونها صُممت لتكون أداة في يد الأمم المتحدة للإمساك بالوضع الأمني بين لبنان واسرائيل بأكمله، ولخدمة الأمن والاستقرار في المنطقة وفي العالم، سيّما وإنّ الأمم المتحدة هي الطرف الثالث الموقّع على الاتفاقية، ولتكون تالياً مرجعاً يحتكم اليه الطرفان أمنياً في ما بينهما.

إنّ اتفاقية الهدنة هذه هي المعاهدة الوحيدة الموقّعة بين لبنان وإسرائيل، إذا استثنينا اتفاق ترسيم الحدود البحرية الذي بقي الى الآن سرياً. واتفاقية الهدنة هي معاهدة دولية تتمتع بكل المواصفات التي حددها القانون الدولي في قانون المعاهدات الدولية الذي كرّسته اتفاقية فيينا لعام 1968، وهي تُلزم اسرائيل باحترام حدود لبنان المعترف بها دولياً. فالمادة الخامسة – الفقرة الأولى من الاتفاقية تنص على أن «خط الهدنة يتبع الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين»؛ وهذه المادة فائقة الأهمية بالنسبة للبنان، فهي تضع حدّاً لأطماع اسرائيل بالأراضي اللبنانية، سيّما أنّ اسرائيل لا تزال ترفض تعيين حدودها، ما يؤشر الى طموحاتها الإقليمية. وقد تكون هذه المادة بالذات هي من الأسباب الضمنية التي جعلت اسرائيل تتحيّن الفرص للتملص من موجبات اتفاقية الهدنة وإعلان تخليها عنها.

أما بالنسبة للإطار القانوني للاتفاقية، ومدى صلاحيتها لضبط النزاع اللبناني-الاسرائيلي بعد أن مرّ عليها زمن طويل حافل بالحروب والاحتلالات والتوتر الذي لم ينقطع، فيمكن القول أنّه برغم كل التطورات والتقلبات التي شهدتها الأوضاع بين لبنان وإسرائيل منذ توقيع اتفاقية الهدنة بين الدولتين عام 1949 بقيت ثابتة وصالحة للتنفيذ. فإنّ جميع هذه التطورات والأوضاع وتداعياتها لم تنل على الاطلاق من اتفاقية الهدنة، التي بقيت تمثل على الدوام الإطار القانوني الصحيح والوحيد المتوفر لضبط الوضع بين الدولتين، حتى مع صدور القرار 1701 الذي جاء مكملاً لاتفاقية الهدنة وطوّر ملحق الدفاع الذي تضمنته الاتفاقية. والدليل القاطع على الثبات والاستمرارية في اتفاقية الهدنة هو وجودها في كل القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي المتعلقة بالوضع بين لبنان واسرائيل، حيث تُذكَر فيها الاتفاقية كأحد المراجع التي تستند اليها جميع تلك القرارات، أو تَذكُر بصراحة أنّ اتفاقية الهدنة لا تزال صالحة وواجبة التنفيذ.

إنّ الأسباب والدواعي التي وفّرت لاتفاقية الهدنة هذه القوة والقدرة على الاستمرار والبقاء كأداة ضابطة للنزاع، رغم تقادمها، عديدة، وهذه أهمها.

1-الاتفاقية جاءت مندرجة تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

2- الاتفاقية حظيت بتصديق مجلس الأمن.

3- الاتفاقية أسست هيئة دولية لمراقبة الهدنة لا تزال تعمل الى اليوم.

4-  إنّ الاتفاقية كانت محايدة ووفرت عدة ضمانات للفريقين.

إضافة لهذه الأسباب الأربعة، التي تعطي الاتفاقية القوة القانونية لاستمرارها، فإنّ الأساس الموضوعي الأكثر قوة هو التوازن والحيادية اللذان صيغت بهما الاتفاقية. وهذه الصفة مستمدة من الضمانات التي أعطتها الاتفاقية للفريقين بالتوازي. فهي قد حرصت على احترام أمن الفريقين والاطمئنان لعدم تعرض أي منهما لهجوم مسلح من الفريق الآخر، كما فرضت بشكل صريح قيداً على القوات النظامية وغير النظامية لجهة عدم اعتدائها على قوات الفريق الآخر وبشكل خاص ضد المدنيين أو تجاوز خط الهدنة (أي الحدود).

هنا لا بد من الإشارة الى مسألة اثارتها الفقرة الأخيرة المتعلقة بالضمانات التي توفرها الاتفاقية للفريقين. هذه المسألة تتعلق بضمان عدم خرق اتفاقية الهدنة، وهو أمر طُرح بقوة بعد توقيع الاتفاقية مباشرة ولا يزال قائماً الى اليوم، وذلك بسبب الخرق الاسرائيلي المتواصل للهدنة. لكنّ الشيء البديهي الذي يمكن قوله، هو أنّ المسؤولية تقع من دون شك وقبل أي شيء آخر على عاتق مجلس الأمن الدولي. فهو الذي أمر بالاتفاقية أولاً، وهو الذي صدّقها ثانياً، وضمنَ استمرار العمل بها وعدم خرقها ثالثاً. إلاّ أنّ اسرائيل قد شكّلت، وللأسف، حالة خاصة وشاذّة في الأمم المتحدة وفي المجتمع الدولي. فهي لا تهاب القرارات الدولية، وتخرق ما لا يروق لها دون وجل. فالرعاية والدعم الذي توفّره لها الدول الكبرى يبقيها بمأمن من أية عقوبة قد يفكر بها مجلس الأمن لدى خرقها قراراته كما يفعل مع غيرها من الدول. من هنا نقول أنّه لا يمكن التفكير بأي نوع من الضمانات التي تكفل عدم خرق اتفاقية الهدنة في ظل الظروف العالمية السائدة التي تتحكم فيها مصالح الدول العظمى بمصير الشعوب.

نخلص من هذا كله الى أولوية وأهمية أن يتمسك لبنان بوضوح، وعلى كل المستويات، باتفاقية الهدنة، باعتبارها حقاً للبنان ضمنه القانون الدولي ولايزال.

إنّ ما توخيت التنبيه اليه في هذه المقالة هو دعوة المسؤولين اللبنانيين الى أن يكون إعلان لبنان الصريح والدائم التزام اتفاقية الهدنة الموقّعة مع إسرائيل برعاية الأمم المتحدة، ومعها القرارات الدولية المشار اليها، هي عنوان استجابة لبنان للشرعية الدولية في سياسته الخارجية، ولا سيّما في مواجهة إسرائيل في هذه المرحلة بالذات.