كتب منير الربيع في “المدن”:
كل محاولات الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان وغزة لم تنجح حتّى الآن. حاولت الولايات المتحدة الأميركية العمل من أجل هدنة ولو لأيام قليلة، لتمرير استحقاق الانتخابات الرئاسية، لعلها بذلك تظهر أنها نجحت في وقف النار وفتحت باباً جديداً من أبواب التفاوض. لكن حسابات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كانت مختلفة مجدداً. فالرجل يعدّ الأيام الفاصلة عن الانتخابات بالدقائق، ويسعى لاستثمارها كلها في تنفيذ المزيد من العمليات وتوسيع حربه، وتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه، طالما أن واشنطن منشغلة بالانتخابات. لذا هو غير مستعد لإعطاء أي فرصة لأحد. فلا يريد لحزب الله أن يأخذ نفساً، على حدّ تعبيره وتعبير مسؤوليه وأبرزهم وزير الأمن يوآف غالانت ورئيس الأركان هرتسي هليفي.
العسكري الإسرائيلي والديبلوماسي الأميركي
يستغل الإسرائيليون أي فرصة لتنفيذ ضربات أقوى وأقسى، خصوصاً في ضوء التحضير لتنفيذ ردّ قويّ على إيران، بينما تحاول واشنطن تخفيف حدّة هذا الردّ، والاتفاق على خطوط عريضة مع تل أبيب لعدم استهداف المنشآت النووية أو المنشآت النفطية. كل ذلك يبقى غير مضمون. الأسلوب العسكري، والسياسي الذي يتبّعه نتنياهو في لبنان حالياً هو نفسه ما اتبعه في غزّة. في المقابل، يواصل الأميركيون تحركاتهم ومساعيهم في سبيل وقف إطلاق النار وإتمام صفقات.
فبعد اغتيال رئيس حركة حماس في غزة، يحيى السنوار، حاول الأميركيون إقناع الإسرائيليين بوضع خطة سياسية لإنجاز صفقة، أي لترجمة ما تحقق عسكرياً في الميدان السياسي. الأمر نفسه يتكرر في لبنان، بعد اغتيال أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله ورئيس المجلس التنفيذي في الحزب هاشم صفي الدين. إذ دعا الأميركيون الإسرائيليين إلى الاستثمار السياسي بما اعتبروه إنجازات عسكرية، لكن نتنياهو لم يستجب حتّى الآن.
حاولت الولايات المتحدة الأميركية ممارسة أقصى أنواع الضغوط على اللبنانيين لدفعهم إلى إعلان وقف النار من طرف واحد، والقبول بالكثير من الشروط الإسرائيلية المفروضة. ولكن ذلك غير ممكن لبنانياً، ومن غير المضمون أن توافق إسرائيل على وقف النار طالما أن نتنياهو يواصل عملياته، من دون أن يتمكن أحد من إيقافه.
وقد انتقل الإسرائيليون إلى مرحلة جديدة في لبنان سمّاها غالانت “مرحلة تدمير حزب الله”، وهي تتضمن ضرب واستهداف فروع مؤسسة القرض الحسن، ومناطق سكنية واسعة في الجنوب وبيروت والبقاع. بالإضافة إلى التدمير الشامل الذي يحدثه جيش الاحتلال الإسرائيلي في قرى الشريط الحدودي. وذلك لفرض منطقة عازلة بحكم الأمر الواقع، عبر إعدام كل مقومات الحياة فيها.
صك الاستسلام
يحاول الأميركيون والإسرائيليون وضع خطوط عريضة لصيغة الحلّ المقترح في لبنان. ما يريده الإسرائيليون هو التعاطي مع لبنان مسبقاً باعتباره طرفاً مهزوماً، ويحاولون فرض الشروط القاسية عليه، لجهة توسيع وتعزيز صلاحيات قوات اليونيفيل على الأرض، مع إنشاء منطقة عازلة، بالإضافة إلى ضمان إسرائيل لحرية حركتها العسكرية في الأجواء اللبنانية، وهو المقصود به صك الاستسلام، الذي يريدون انتزاعه مبكراً. هذا الأمر مرفوض كلياً من قبل حزب الله خصوصاً والدولة اللبنانية عموماً. فحزب الله لا يزال يواصل القتال وإطلاق الصواريخ على تل أبيب، ويتصدى لعمليات التوغل البرّي. كما أنه لا يمكن فصل جبهة لبنان عن مسارات ما بعد الضربة الإسرائيلية على إيران.
ردّ الإسرائيليون على التعهد اللبناني بتطبيق القرار 1701 بشكل كامل وبكل حذافيره بالتسريبات التي خرج بها موقع أكسيوس، حول المطالبة بحرية الحركة في الأجواء اللبنانية، وأن تكون إسرائيل قادرة على ضرب أي هدف لحزب الله عندما تريد. وفي ذلك نوع من الاستسلام الكلي للدولة اللبنانية، وتكرار لتجربة الاتفاق الأمني في 17 أيار.
غارات سياسية
في موازاة هذا الضغط العسكري والأمني، وإلى جانب الغارات الجوية الكثيفة التي ينفّذها الإسرائيليون، بدأوا بالعمل على شنّ “غارات سياسية” عنيفة على رئيس مجلس النواب نبيه برّي، باعتباره الطرف المفاوض، والذي يحاولون الضغط عليه سياسياً وعبر رسائل متعددة وصل آخرها إلى التهديد بالنار، من خلال تكثيف العمليات الجوية على صور، ومطالبة السكان بالمغادرة، في تكرار واضح لسيناريوهات غزة أيضاً. بالإضافة إلى الرسالة النارية التي وجهت لرئيس مجلس النواب في منطقة الجناح والتي تعتبر منطقة نفوذ واسعة لحركة أمل، إلى جانب الرسالة من خلال تهديد مستشفى الساحل، وصولاً إلى الاتصالات التي أجريت بقناة “أن بي أن” لإخلائها.
لطالما عبّر برّي أنه لا يخضع للضغوط ولمحاولة فرض الشروط، ولطالما أكد في أكثر من محطّة قوله: “أنا مساقبة إني برّي أبحلاش على الرصّ”. تأتي هذه الرسائل رداً على طبيعة برّي وآلية تفاوضه، وهو الذي جدد مع المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين مطالبته بوقف إطلاق النار أو بهدنة لثلاثة أسابيع، يتم خلالها العمل على وضع مسار واضح للتفاوض حول وقف الحرب وإنهائها في لبنان وغزة معاً. فكان جواب هوكشتاين بأنه يريد مراجعة نتنياهو. طبعاً، رفض لبنان إعطاء أي التزام قبل الحصول على موقف إسرائيلي واضح وعلني، يشير إلى الالتزام بوقف النار.
رسائل الضغط على برّي، تشير إلى المسار الإسرائيلي المستنسخ من غزة. فهناك يرفض الإسرائيليون وجود أي طرف فلسطيني للإمساك بالوضع على الأرض، ويرفض الإسرائيليون بشكل خاص السلطة الفلسطينية، ويصرّون بأنفسهم أن تكون الإمرة الميدانية والسيطرة العسكرية والأمنية والسياسية لهم. هذا أيضاً ما يريدونه في لبنان، باستغلال الضغط العسكري. في غزة أيضاً، وفي ظل سعي الأميركيين للعمل على مقترح جديد، لوقف النار، مع محاولات للتفاوض مع أطراف في حركة حماس، لإقناعهم بسحب السلاح، وتقسيم غزة إلى مناطق متعددة، إحداها تبقى فيها القوات الإسرائيلية، مقابل الانسحاب من مناطق أخرى، في محاولة لفرض واقع جديد في القطاع… تمضي تل أبيب بارتكاب المجازر والتصعيد العسكري. وهو أيضاً ما يتكرر في لبنان.