IMLebanon

بعلبك، أنا دمعة على دْراجِك

بقلم الدكتور جورج شبلي:

بعلبك أمُّ الآثارِ اليونانيّةِ والرّومانيّة، في الشّرق، تَلتفِتُ الأَبصارُ إليها لأنّها آيةُ عهودِ الفتوحات، ونَسَبُ النّبوغِ المعماريّ، آنذاكَ، وحتى السّاعة. لقد وقعَ حبُّها، فينا، والذي تجاوزَ عوارضَ المَلاحةِ ليبلغَ أجزاءَ الرّوح، بعُلُوِّ محلِّها في تراثِ بلادِنا الصّافيةِ، وبغَلَّةِ النِّتاجاتِ التي فاضَت، على مدارجِها، من قرائحِ المُبدِعين الذين وجدوا، فيها، محطَّ رِحالِ نبوغِهم.

بعلبك، عندما كان الشّرقُ ذا أيّامٍ صَدِئة، لا منفذَ له في شعاعِ المدنيّة، كَشَفَتْ، وحدَها، عن وجهِ الفنِّ، والجَمال، وعظمةِ الهيبة، وتفوَّقَت في حضورِها الذي دعا الرّائي الى التأمّلِ في بدائعِ الابتكار، وفي مذاهبِ المواهب. وبذلك، أماطَتِ اللِّثامَ عن نفحةِ الرّيادةِ في لبنان، فبدا ضرَّةَ الشّمسِ في إشعاعِ الخَيالِ واليَد.

بعلبك، لا يقفُ نفعُها، بل قيمتُها، على المشتَغِلين بالتّاريخ فقط، فحلقاتُها لم يتمَّ عَقدُها بارتفاعِ أعمدتِها لتعانقَ وَجَناتِ الغيوم، لكنّها انتقلَت من رسالةٍ أنيقةٍ للزّمن، الى صَكِّ شموخٍ للفنِّ الذي، بفَضلِها، عادَ بالخيرِ، والشّهرةِ، والتّأثير، والتّثقيف، لشيوخِهِ كما للمُتَلَقّين، على اختلافِ شِيَعِهم، وأذواقِهم، وطقوسِهم.

كانت بعلبك تفتحُ قلبَها، وسواعدَها، وأذنَيها، لصَوتِ السّنابلِ في السّهل، ولِنَبضِ القرائحِ فوقَ مسارحِها، ولم يذهب الصّوتُ سُدًى، بل اعتلى منصّةَ الأيام ليمدمكَ لنهضةٍ ثقافيّةٍ فنيّة، لوَّحَت شمسُها حضارةً في الأوقاتِ المباركة. لقد حلَّقَت بعلبك، بدَويِّ الأعمالِ التي كانت مُنبَسَطًا لحضورِ الإبداع الرّاقي، ولكن، بدونِ دَوِيّ، بِسببِ صِلَةِ القُربى مع العظمةِ المتواضعة، ومع حِشمةِ الكِبَرِ بالرّغم من بُرجِها المرتفِع. فذَوو التَألّقِ، والتَّعَملق، من فنّاني لبنانَ والعالَم، فتحوا خزانةَ إبداعاتِهم على مدارجِ القلعةِ التي غَدَت مؤسَّسةً للفنّ، ومعلَمًا للثقافةِ ولِقِيَمِ الحضارة، يغرفُ من ثروتِها كلُّ مُكتَسِب.

تِلكُمُ هي الجوانبُ البرّاقةُ في بعلبك، تاريخِ التّاريخ، وضِلعِ أروقةِ الفنون، والشّواهدُ لا تُحصى، من عاصي مُحرِزِ السَّبقِ، والإعجاز، في الأعمالِ المسرحيّةِ، كتابةً وتلحينًا، وفيروز التي لا يطلعُ صباحٌ إلّا من صوتِها، ووديع الصّافي التّركيبةِ العجيبةِ في الحَلقِ الموهوب، والشّحرورةِ فَتِّ المِسكِ، والتي لا يضبطُ صوتَها مقياس، وسواهم من المحلِّيّين والأَجانب، أساتيذِ الفنونِ الذين لمّا يزلْ ظِلُّهم مُعَلَّمًا في منصّةِ بعلبك، وذاكرةِ لبنان. كلُّ هؤلاءِ المَلافنةُ في العطاءِ الفنيّ المُثَلَّثِ التّرميز، في مشهديّاتِ الكلمةِ واللّحنِ والصّوت، والذين سبقَت موهبتُهم المسافةَ الوقتيّةَ بينَ وَمْضِ الفِكرِ وتجلّياتِهِ المُشاهَدَة، وحارَتِ الرقّةُ في ضَبطِ نتاجاتِهم… أينَهم، وقد انتقلَ إليهم، مِنّا، الوجعُ بالعدوى، ونحنُ نعاينُ نفائسَهم نُسخاتٍ مشوَّهةً في غربة، بعدَ أن شُيِّدَت بهم أنديةٌ ومَحافِل ؟؟؟

بعلبك، اليوم، والتي إِنْ جالَت في خاطرِكَ، يستفزُّكَ الفرحُ قبلَ رؤيتِها، هل مَنْ يُؤتَمَنُ، به، على روحِها ؟؟؟ هل بَقِيَت بعلبكُّ أرضًا رشيحةً بتراثٍ كأنّه التّرصيعُ في ألوانِ الخَزَف، مع ما حاوطَها من سلوكٍ أدماها، واستجلبَ خطرَ إحالتِها أنقاضًا ؟؟؟ هل تستمرُّ بعلبكُّ متمرِّدةً على هُبوبِ الزمان، لا تُمحى خطوطُها من عِرقِه، وكأنّها نَفحُ الطِّيب، ووكيلٌ حصريٌّ لعجيبِ العمارة، وقد سدَّ منافذَها مُهوِّلونَ لا يُنتَظَرُ من هرطقاتِهم غيرُ دمارِ العَبثِ واللّاجدوى ؟؟؟

بعلبك، إنّ الغائبين عن الوعيِ الوطنيّ، المُتماهين مع الوصِيِّ الذي سحقَ الوطن، جعلوكِ حَلَبَةً استباحوها، وطوّقوها بالخطر، عسى ألّا تنتهي رحلتُكِ العارمةُ بالعَظمة، في التّراب !!!