كتب منير الربيع في “المدن”:
في العام 2017، وخلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترامب، وفي أحد الاجتماعات التي كان يعقدها التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب في سوريا والعراق، اتخذ قرار واضح بخنق دول “المحور الإيراني” مالياً واقتصادياً وصولاً إلى إفلاسها. كان ترامب ينطلق من استراتيجية عدم مواجهة إيران أو مهاجمتها عسكرياً، ولكنه في المقابل انسحب من الاتفاق النووي، واتخذ خطوات أوضحت حقيقة رؤيته لمنطقة الشرق الأوسط التي يريدها، من خلال إعلان إسرائيل ليهودية وقومية الدولة، والاعتراف بالقدس كعاصمة لها مع نقل السفارة الأميركية في إسرائيل إليها، بالإضافة إلى الاعتراف بضم إسرائيل للجولان. عمل ترامب أيضاً على إنجاز اتفاقات التطبيع وفق ما سمي حينها “اتفاق ابراهام”.
ضربات أمنية وسياسية
احتاجت سياسة إفلاس دول المحور إلى ثلاث سنوات حتى ظهرت نتائجها بشكل واضح وجلّي في العام 2020 في لبنان وسوريا، الدولتين اللتين تعايشتا مع أزمة مالية خانقة أدت إلى انهيار العملة، مع تشديد الضغط الإقتصادي والمالي والعقوبات على إيران. وفي بداية العام 2020 اغتال دونالد ترامب قائد فيلق القدس قاسم سليماني، في ما بدا وكأنه يريد وضع منطقة الشرق الأوسط على سكة جديدة. فباغتيال سليماني وجهت ضربة أمنية وعسكرية وسياسية للنفوذ الإيراني في المنطقة. كان حزب الله في العام 2017 قد تبلّغ من جهة رسمية لبنانية بالقرار الدولي المتخذ في إفلاس “العواصم التي تسيطر عليها طهران”. لم يتعاط الحزب بجدية مع الرسالة. أحد مسؤوليه الكبار استخدم عبارة رائجة في السرديات الاجتماعية اللبنانية “من هلق لثلاث سنوات الله بيفرجها”. لم يكن معلوماً إذا كانت المدة التي وضعها مسؤول الحزب بناء على دراسة دقيقة لما تمتلكه دول المحور أم أنها كانت عبارة عفوية وتصادف الانهيار مع المهلة التي تحدث عنها.
في العام 2017 أيضاً، برزت مؤشرات سياسية عنيفة على مستوى المنطقة ولبنان خصوصاً. إذ حصلت حادثة استقالة الرئيس سعد الحريري من رئاسة الحكومة من العاصمة السعودية الرياض، ببيان يحمل لغة عنيفة وشرسة تجاه إيران وحزب الله. بدا حينها وكأن لبنان سيكون مقبلاً على مشروع تغيير أو انقلاب جذري ودموي. ولكن تدخلات دولية كبيرة أسهمت في تأجيل الأزمة أو الانفجار. ولكن كان واضحاً منذ ذلك الحين أن الأمور في طور التغيّر أو وضعت على سكّة التغيير بفعل الضغط الدولي الكبير. ما بعد هذه الضغوط وصولاً إلى الانهيار المالي والاقتصادي وصل لبنان إلى قناعة الإقدام نحو ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، كإشارة تنازلية وإبداء الاستعداد لتكريس استقرار طويل الأمد. خفّض لبنان من مستوى سقوفه السياسية والعسكرية، لكن الضغوط استمرّت مع مطالبات أميركية وغربية وخليجية، بضرورة إنجاز إصلاحات سياسية واقتصادية وإدارية.
“الطوفان” ورسائل التحذير
استمرت المراوحة في المنطقة طوال السنوات الثلاث من ولاية الرئيس الأميركي جو بايدن، إلى لحظة تنفيذ عملية طوفان الأقصى في تشرين الأول 2023. قبلها، كانت المفاوضات مع إيران تراوح مكانها، وكذلك مع السعودية وغيرها من الدول، ولم تشهد ساحات المنطقة المختلفة أي تغيير كبير. انفجر الصراع الأكبر في الحرب التي بدأتها إسرائيل على قطاع غزة، وتريد لها أن تمتد لتطال وتشمل المنطقة ككل، وخصوصاً لبنان وإيران. أراد نتنياهو صاحب حكومة اليمين المتطرف، والحليف الأبرز لدونالد ترامب أن يغيّر الوقائع كلها وقد عبّر عن ذلك، ولا يزال يواصل تصعيده العسكري ليبلغ مبتغاه. حالياً، أصبح رهانه الأكبر على دونالد ترامب الفائز في ولايته الثانية، مدعوماً بمشاريع ورؤية جاريد كوشنير، الذي كتب بعد اغتيال أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله مقالة، أشار فيها إلى وجوب عدم الضغط على إسرائيل لوقف الحرب، بل يجب دعمها لاستكمال المهمة وتقويض النفوذ الإيراني وتغيير وجه المنطقة.
قبيل اغتيال نصرالله، وقبيل تفجيرات أجهزة البايجرز، تلقى حزب الله رسائل دولية وداخلية حول المخاطر التي تحدق به. فرئيس النظام السوري بشار الأسد لم يكن مؤيداً لحرب الإسناد، وأبلغ الإيرانيين وحزب الله بأن هذه الحرب ستكون كبيرة بتداعياتها وستؤدي إلى تدمير المنطقة. وحذّر الأسد حزب الله من الانخراط في هذه الحرب. رئيس الجمهورية السابق ميشال عون أوصل رسالة مباشرة إلى نصرالله، دعاه فيها إلى الامتناع عن الدخول في حرب الإسناد لأن هذه الحرب غير كل الحروب، وستؤدي إلى إصابة حزب الله بأذى كبير جداً، وستشهد عمليات اغتيال كبيرة. وقال عون في رسالة مكتوبة لنصرالله إنه “يخاف على حزب الله وعليه شخصياً، ويخاف على مصير الحزب وعلى قوة لبنان”.
في اليوم نفسه الذي شهد اغتيال نصرالله، تلقى حزب الله رسالة أمنية واضحة تحذّره من تحضير الإسرائيليين لعملية اغتيال لنصرالله. وصلت الرسالة إلى الحزب قبل خمس ساعات من شنّ الطائرات الحربية الإسرائيلية غارات عنيفة على الضاحية عند السادسة مساء، ما أدى إلى اغتيال الرجل الأقوى في المحور الإيراني. تعاطى حزب الله مع الرسالة باستخفاف وبأن الإسرائيليين لن يجرؤوا على اغتيال أمين عام الحزب، وإن أرادوا فهم غير قادرين على ذلك.
تغيير الشرق الأوسط
في شهر آب الفائت، حمل القيادي في حركة حماس خليل الحية رسالة إلى الأمين العام لحزب الله، يشير فيها إليه لما توفر لحماس من معلومات حول تحضيرات الإسرائيليين لشنّ حرب موسعة على لبنان مع بنك أهداف كبير. لكن الحزب في حينها تعاطى باستخفاف مع هذه المعلومات، على قاعدة أن إسرائيل غير قادرة على شنّ حربين على جبهتين مختلفتين، وأن الجيش الإسرائيلي غارق في غزة وغير قادر على توسيع حربه ضد لبنان. كل ما جرى تحذير الحزب منه.. وقع. فيما يواصل نتنياهو تصريحاته حول مساعيه لتغيير وجه الشرق الأوسط.
أخذ نتنياهو نفساً عميقاً بفوز دونالد ترامب في رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، فالرجل يريد العودة إلى فترة الاتفاقات الإبراهيمية مع فوارق كثيرة هذه المرة، أهمها حرب التدمير الممنهج والكامل لقطاع غزة، في سياق القضاء على أي فرصة لحلّ الدولتين، ومواصلة خنق الضفة الغربية بالمزيد من المستوطنات، إلى جانب توجيه ضربات كبرى وقاسية لحزب الله ولإيران داخلها أو لحلفائها في المنطقة.
يتهم الديمقراطيون نتنياهو بأنه كان أحد أبرز الأسباب لفوز ترامب، بينما سددّ هو آخر ضرباته لبايدن من خلال التغيير الوزاري الذي أجراه، وأقال بموجبه وزير الأمن يوآف غالانت من منصبه. إثر صدور النتائج، قال نتنياهو إنها مرحلة جديدة وعليه الانطلاق من جديد. ما يعني مواصلة مشروعه في فلسطين وعلى مستوى المنطقة. وهو يراهن على ترامب للقضاء على القضية الفلسطينية، وعلى حلّ الدولتين، وعلى “توسيع مساحة إسرائيل”، ولا سيما الرهان على دعمه في خيار ضمّ الضفة الغربية.
حتى اللحظة الأخيرة
استثمر نتنياهو حتى اللحظة الأخيرة ما قبل الانتخابات الأميركية لمواصلة تصعيده في المنطقة. وسيستثمر حتى اللحظة الأخيرة ما قبل دخول ترامب إلى البيت الأبيض، بل هو سيحاول الاستفادة من كل دقيقة لتنفيذ مشروعه في ضرب وتدمير وإضعاف خصومه.
أما مسار ترامب والذي لا بد من انتظار ثلاثة أشهر حتى يتبلور، فميزانه الأساسي سيكون الحرب الروسية على أوكرانيا، والعلاقة مع إيران، التي يريد نتنياهو ضربها أو منعها من الحصول على سلاح نووي.
في المنطقة، معادلة ترامب ونتنياهو المشتركة هي تغيير وجهها ووجهتها، وعلى هذا الأساس سيكون التفاوض الأميركي مع طهران، حول ارتضائها بالمتغيرات أو مواصلة المواجهات. فحينها سيكون رهان نتنياهو على دعم أميركي متجدد ويد مطلقة. وما قاله ترامب قبل انتخابه كان واضحاً حول إيجاد حلّ للصراع بين إسرائيل وأعدائها برمّته، وأردف أنه يريد صناعة السلام في المنطقة. ما يعني أن استراتيجيته ستتركز على توسيع نطاق الاتفاقات الإبراهيمية والضغط على لبنان للذهاب نحو اتفاق سلام أو بالحدّ الأدنى اتفاق طويل الأمد حول وقف العمليات العسكرية ضد إسرائيل، مع ما سيعنيه ذلك من متغيرات سياسية وعسكرية على المستوى الداخلي.