كتبت رنى سعرتي في “نداء الوطن”:
اتّخذ المجلس المركزي لمصرف لبنان قراراً بعدم بث أخبار سلبية حول الوضع المالي حتّى لو أن الأمور تتجه نحو مسار تراجعي، إن من ناحية احتياطي البنك المركزي بالعملات الاجنبية، أو من ناحية صعوبة تأمين الدولارات اللازمة مع تدهور الوضع الاقتصادي وتراجع التدفقات المالية إلى البلاد وشبه انقراض لدولارات سياحة المغتربين، والتي كان يعوّل عليها الاقتصاد للصمود بالدرجة الأولى خلال موسم الأعياد المقبل.
للمرّة الأولى منذ تموز 2023، انخفض احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية مع تدخل البنك المركزي لدعم الليرة بعد أسابيع من الحرب وبعد قرار المركزي تسديد ثلاث دفعات في شهر تشرين الأول 2024 للمستفيدين من التعميمَين 158 و166. فتراجعت الاحتياطيات الأجنبية أكثر من 500 مليون دولار في تشرين الأول الماضي وفقاً لبيانات البنك المركزي لتصل إلى حوالى 10.3 مليارات دولار حالياً، بعدما كانت حوالى 10 مليارات و850 مليون دولار في مطلع تشرين الأول، مرتفعة من 8 مليارات و800 مليون دولار في مطلع آب 2023، أي بزيادة ملياري دولار من تاريخ تغيّر الإدارة في المركزي، علماً أن تقديرات معهد التمويل الدولي ترجّح بلوغ الاحتياطات حوالى 10 مليارات دولار في أواخر 2024.
هذا المسار النزولي في احتياطيات مصرف لبنان الأجنبية، يطرح سؤالاً حول إمكانية استمرار المركزي بسياسة إعادة تكوين احتياطه في حال استمرّت الحرب، وفي سياسة إعادة تسديد الودائع في حال استمرّ استنزاف الاحتياطي، إن للحفاظ على استقرار سعر الصرف أو لدعم المودعين عبر التعميمَين 158 و166، في مقابل عدم ضخ دولارات جديدة في السوق وشحّ التدفقات المالية الخارجية وتراجع الواردات نتيجة انخفاض كبير في نسبة الجباية بسبب الاحداث الأمنية.
مهما أرسل المغتربون إلى أقاربهم في لبنان، فتلك الأموال لا تشكّل نقطة في بحر إنفاقهم السياحي خصوصاً في فترة عيدي الميلاد ورأس السنة، مع الإشارة إلى أن إيرادات السياحة بلغت حوالى 5,4 مليارات دولار في 2023، وبالتالي من المستحيل تعويض تلك التدفقات من خلال الإنفاق السياحي أو الاستهلاكي للبنانيين المقيمين والذي يزيد إجمالاً خلال الاعياد، خصوصاً أن القدرة الشرائية والوضع الاقتصادي المتردّي هذا العام، لن يسمح للطبقة الفقيرة والمتوسطة بالإنفاق بالمستوى ذاته مقارنة بالعام الماضي، كما أن الوضع الأمني سيفرمل إنفاق الطبقة الميسورة خلال الأعياد.
فهل يمكن الصمود من دون دولارات السياحة والمغتربين؟ وما هي الضغوطات الناتجة عن تراجع حجم احتياطي المركزي من النقد الأجنبي؟
اعتبر مسؤول سابق في مصرف لبنان أن الأزمة اليوم أكبر من الأزمات التي مرّ بها المركزي خلال السنوات الماضية، والضغوطات أكبر لأن الجباية في أسوأ مراحلها والتراجع بالإيرادات الحكومية حتميّ في مقابل وجوب حتميّ لارتفاع الإنفاق الحكومي بأكبر نسب. وبما أنه لا يمكن التعويل لتسديد النفقات لفترة طويلة على مدّخرات الحساب رقم 36 الذي سيكون صعباً إعادة تمويله في ظلّ شحّ الواردات، فإن مصرف لبنان أمام تحدٍ كبير لناحية الإنفاق الحكومي، وسيجد نفسه مضطّراً إما لاستنزاف الاحتياطي أو لطبع العملة من جديد لتسديد الرواتب في حال طالت الأزمة. مشيراً إلى أنه من الصعب أن يستمرّ الحاكم منصوري في سياسة عدم تمويل الدولة، وقد يضطّر إلى اعتماد سياسة سلفه لأن الدولة عاجزة عن جباية الإيرادات. وبالتالي، “لا داعي لمواصلة هذه الكذبة الكبيرة: لن نموّل الدولة. “علماً أن نفقات الدولة حالياً تقتصر على الرواتب والأجور ولا تطاول بعد أي إنفاق على البنى التحتية وغيرها من الأمور الملحّة.
وأسف المسؤول للعقلية التي ما زالت سائدة اليوم وهي نفسها التي ورّطت البلاد في أزماتها المالية، والمتعلّقة بالتفاؤل والتعويل والمراهنة على أموال المؤتمرات والمساعدات التي قد ترد إلى البلاد بعد انتهاء الحرب، “باعتبار انها قد تنتهي قريباً”، من دون التفكير أو التخطيط لإمكانية استمرار الحرب عاماً إضافياً، وهو ما أعلنت عنه بعض الجهات. معتبراً أن تحديات مصرف لبنان كبيرة وهو في وضع لا يحسد عليه لجهة تأمين الرواتب والحفاظ على استقرار سعر الصرف وتسديد متوجبات التعميمَين 158 و166.
من جهته، رأى النائب السابق لحاكم مصرف لبنان غسان عياش أن الرأي العام صُدم بتحوّل اتجاه رصيد العملات الأجنبية في مصرف لبنان منذ منتصف شهر حزيران الماضي نحو التراجع، بعدما ثابر المصرف منذ تموز 2023 على زيادة رصيد موجوداته بالعملات الاجنبية، حتى بلغت الزيادة منذ ذلك الوقت حوالى 1.7 مليار دولار. وأشار عياش لـ “نداء الوطن” إلى “ملاحظة اعتراضية وهي أن مصدر الاحتياطيات بالعملات هو الاحتياطي الإلزامي، أي أموال المودعين، بالتالي فهي ديون لمصلحة المصارف وزبائنها. والحقيقة أن هذه الاحتياطيات تقلّ عن حجم الاحتياطي الإلزامي للمصارف لدى مصرف لبنان، ولو كان المصرف المركزي ملزماً بتصفية حساباته مع المصارف لتكوّن عجز لمصلحة المصارف يزيد على 3 مليارات دولار”.
كما أشار إلى أن الاحتياطي النقدي بالعملات الأجنبية يختلف عن احتياطي الذهب الذي تعود ملكيته الخاصة الكاملة إلى المصرف المركزي، وهو يقدّر بالأسعار الحالية “المرتفعة” بما يزيد عن 25 مليار دولار”.
واعتبر عياش أن “تحوّل اتجاه رصيد الاحتياطي بالعملات نحو الهبوط ليس ظاهرة غريبة أو غير مفهومة، بل هو ناتج بصورة غير مباشرة عن الحرب التي تشنها إسرائيل على لبنان. فالدولة سحبت جزءاً من ودائعها بالعملات لدى مصرف لبنان لكي تفي ببعض التزاماتها في مجال الإغاثة، على سبيل المثال للمستشفيات ومجلس الجنوب والهيئة العليا للإغاثة. كما أن المصارف قد تكون سحبت بعض ودائعها في المركزي لتطبيق التدابير الاستثنائية المتصلة بتعاميمه الخاصة بتسديد الودائع التي منحت المودعين الحق بسحب ثلاث دفعات بدلاً من دفعة واحدة، نظراً للأوضاع الصعبة الناجمة عن النزوح من المناطق المنكوبة”.
وحذّر من أن تراجع احتياطي المركزي بالعملات يثير القلق لجهة تراجع قدرة مصرف لبنان على حماية الاستقرار النقدي الثابت منذ صيف العام الماضي، خصوصاً مع تطوّر الحرب على لبنان، وكذلك ضعف قدرة الدولة على تمويل احتياجات المجتمع المتزايدة مع تطوّر الحرب. كما أن التطورات المشار إليها تطرح علامات استفهام حول قدرة مصرف لبنان والمصارف على الاستمرار لفترة طويلة في تسديد المبالغ المتواضعة من الودائع وفقاً للتعاميم، لا سيما 158 و166.
وفيما لفت عياش إلى أن مصرف لبنان اعتمد خطوات تكتيكية ناجحة منذ أكثر من عام لمنع انخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية، من خلال تخفيض حجم الكتلة النقدية بالليرة والحفاظ على إيرادات الدولة بالليرة والعملات الأجنبية في حساباتها لديه منعاً للتصرّف بها في السوق ضد مصلحة الاستقرار النقدي، أكد أن الظروف قاسية على صعيد الدولة، مصرف لبنان والمواطنين، “مما يؤكد لنا خلاصة أن الحفاظ على ليرة مستقرّة لا يمكن على المدى الطويل أن يعتمد على مناورات مصرف لبنان وتكتيكاته بل على متانة المالية العامة وسلامة الاقتصاد لا سيما الحسابات الخارجية”.