IMLebanon

“الحزب” يأكل بيئته

كتب طوني عطية في “نداء الوطن”: 

عشية إعدام المثقّف الروسي الشيوعي روباتشوف، الذي اعتُقل في “جهنّمات” ستالين بتهمة التآمر على الثورة، قال له قاضي التحقيق إيفانوف، إنّ “الطبيعة تقضي على ملايين الناس في كلّ مكان ومن دون فائدة، وأنت تريد منّا التخلّي عن التضحية ببضع عشرات آلاف في إطار أعظم تجربة تاريخيّة؟”. هذه “التضحية” تشترك فيها الأحزاب الشمولية على اختلاف معتقداتها الدينيّة والماديّة. فالعقول وحدها تُلوَّث عندما تُغتسل بمستنقعات الأيديولوجيا، وتتحوّل إلى “جماجم”، يصبح تحريكها والتلاعب بها وبمصائر شعوبها وأوطانها أمراً مبرمجاً.

منذ الثامن من تشرين الأول 2023 حتى 26 تشرين الثاني 2024، حصدت تجربة “الإسناد” ثمّ الحرب المفتوحة، أكثر من 3823 ضحيّة و15859 جريحاً، وحوالى 35 قرية ومدينة سحقت بشكل كامل على طول 120 كيلومتراً، من الناقورة غرباً إلى شبعا شرقاً، فيما عدد الأبنية المدمّرة جزئيّاً أو كليّاً جنوباً وبقاعاً وعاصمةً، فاقت الـ100 ألف وحدة سكنية، بحسب تقرير البنك الدولي، الذي قدّر الأضرار والخسائر الأولية في لبنان بنحو 8.5 مليارات دولار، وذلك في تقرير أصدره في 14 تشرين الثاني.

في الضاحية الجنوبية لبيروت، دُمر 262 مبنى على الأقل نتيجة الضربات الإسرائيلية، وفق “مختبر المدن” التابع للجامعة الأميركية في بيروت. هذه الأرقام مرشّحة للإرتفاع بعد إجراءات المسح الرسمية الصادمة. أما عدد النازحين فوصل إلى نحو مليون ومئتي ألف نازح، في أكبر عملية نزوح في تاريخ لبنان. حصل كلّ هذا في “عزّ” فوائض قوّة “حزب الله” (السابقة)، حيث كان يفترض أن يشكّل الدرع الأكبر في تاريخ الشيعة أو على الأقلّ تجاه بيئته التي وثقت وآمنت به وبقدراته حتى النخاع، حتى لو خسرت أرواحها وفلذات أكبادها ومنازلها وأرزاقها. غير أنّ الجنوبيين لم يشهدوا هذا الكم من الدمار والتهجير والموت طيلة الحروب السابقة. أجبروا على الترحال والنزوح من قطاع إلى آخر، من جنوب الليطاني إلى شماله، ثمّ إلى جبل لبنان، بناءً على توجيهات وإنذارت أفيخاي أدرعي. ومع إعلان رئيس حكومته بنيامين نتنياهو وقف إطلاق النار ليل الثلثاء ودخول الهدنة حيّز التنفيذ صباح أمس، غصّت طرقات الجنوب بمواكب العائدين إلى قراهم. منهم من يزورها موقّتاً لمعاينة الذكريات المضمرة تحت الركام، ومنهم سيستقرون في بيوتهم التي لم تشملها خرائط أدرعي، أو لم تمرّ بها “طريق القدس” أو لم تخرقها سلسلة أنفاق “عماد”.

أمّا الشريط الحدودي وباستثناء قرى رميش ودبل وعين إبل والقليعة وبعض بلدات مرجعيون وحاصبيا، فلم يبقَ فيه سوى حلم إعادة الإعمار أو انتظار رحيل فصل الشتاء. فأبناء عيتا الشعب، القوزح، الضهيرة، رامية، يارين، مروحين، علما الشعب، الناقورة، طير حرفا، الجبين، يارون، بنت جبيل، عيناتا، مارون الراس، ميس الجبل، حولا، كفركلا، الخيام، وغيرها وغيرها، كانت عودتهم أشبه بحجّ موقّت، مغمّس بالدمع والحسرة رغم مظاهر الإحتفال.

على الطريق من صور إلى قرى بنت جبيل، يصطفّ الدمار الهائل، وتفوح منه روائح البارود والموت، كأنه يقول هذا ما صنعته التجارب “العظيمة” والمغامرات الخاطئة، بعدما شهدت في السنوات الأخيرة، فورة في الاستثمارات ونهضة كبيرة في القطاعات العقارية والأسواق التجارية والسياحية. فالخلاصة التي يرفض البعض إعلانها، هي أنّ “المقاومة” التي وجدت من أجل “تحرير الأرض”، أكلت بيئتها ولن تستطيع حجب الخسائر والأهوال بإشارات نصرٍ مزيّف.