IMLebanon

الطريق إلى سوريا الجديدة.. تحديات الماضي وهواجس المستقبل

كتب منير الربيع في “المدن”:

لم يعد الداخل الى دمشق يحتاج إلى كتابة وصيته الأخيرة. أفكار كثيرة تواكب لحظة الوصول.على الطرقات، في الساحات، أياد تلوّح، فتبرز الشام كبرّ ترسيه سواعد أبنائها. تلفها أمواج من الناس، تغور في بحر من فرح بسقوط النظام، ومن أسئلة حول الآتي من الأيام. هو غموض يتقمصه الأبد، تبحر إليه شام ما بعد الأسد. هنا يستعيد السوريون صوتهم، يخترعون اللحن، ويغنون دوماً.. جنة جنة جنة.. جنة يا وطنا… وهنا بكاء كثير من الثكالى وعليهن، وهنّ يعانقن وحدات الأرواح الأخيرة، أرواح فلذاتهن التي زُهقت على طريق “الشام حرّة”. ذاك الفرح الذي يعوّض الكثير من الوجع والألم والهجرة والفقد. داخل الفرح بعض من خوف مكتوم على المستقبل، سؤال “ماذا بعد” هو الذي يتبدّى على الوجوه وفي عقول الكثيرين، فما يريدونه هو سقوط النظام، ولكن استمرار سوريا بوحدتها وتعدديتها، وانتقالها إلى الجمهورية الديمقراطية بكل ما تحمله من مزايا اجتماعية تحتوي الكثير من التعقيدات والتشابكات الاجتماعية، السياسية، القومية، العرقية، الطائفية، والمذهبية. في هذه المرحلة يبحث السوريون عن سياسيين، يعملون بميزان الذهب لإعادة انتاج اللحمة الوطنية ضمن رؤية سياسية جامعة، تحفظ وحدة البلاد، وتبقي الجيش حاضراً وقوياً بإعادة تشكيله، على أن يبقى بعيداً عن السياسة، لتجنّب العودة إلى زمن الانقلابات.

سوريا ما بعد الأسد
في الطريق إلى دمشق، يمرّ شريط زمني على محطات لعقود من السنين. وسط تداخل عميق ما قبل المؤتمر السوري العام سنة 1920، وما بعده. عندما كانت سوريا جزءاً من السلطنة العثمانية، ووحدة كبرى تشمل “لبنان، الأردن، وفلسطين” وفق بعض السرديات أو المعتقدات. أما بعد المؤتمر وإنشاء الدولة السورية، تحضر محطات كثيرة منذ الثورة السورية الكبرى، إلى الاستقلال والانقلابات التي حصلت بعده، وما بينهم من إشكالات “مُدنية” حول المدينة الأكبر أو الأكثر حضوراً في المشهد. كل هذا التراكم التاريخي يستحضره المرء لحظة السؤال عن سوريا الجديدة ومقارنتها مع “سوريات قديمة”. تماماً كما هو المشهد الحالي ينقسم بين سوريا “الأسد”، وسوريا ما بعده. بعض الصور والرموز ممزقة. بعضها الآخر لا يزال على حاله. العلم السوري الأحمر قائم على مراكز عديدة لكنه جامد لا يتحرك، فيما الأعلام الجديدة بالأخضر هي التي ترفرف وترفعها الأيدي. تنقسم سوريا بين مشهدين أيضاً، مشهد الأهالي الذين يتحلقون أمام السجون ولا سيما سجن صيدنايا بحثاً عن مستقبل لأبنائهم المفقودين، ومشهد آخر لأهال أمام المستشفيات والمشارح بحثاً عن جثث أبنائهم لاستعادتها وما يرافقها من ذكريات تبقيهم في الماضي.

تخرج من نقطة المصنع باتجاه أول نقطة حدودية سورية. حاجز الأمن العسكري خالياً، تدخل بأريحية، لكأن جوازات السفر كلها تسقط عن المارّين من هناك، إنه شعور في حرية مفرطة، يدعو إلى الرفح لكنه أيضاً يدعو إلى بعض القلق. حاجز التعقيم هو النقطة الأمنية الثانية والتي كانت خالية أيضاً، هو في الأساس حاجز مخصص لتعقيم السيارات في زمن الأوبئة مثل “انفلونزا” وتعزز عمله في فترة كورونا، بعده يحلّ حاجز الجوازات بجوار السوق الحرة التي بدت في حالة يُرثى لها، وهناك أيضاً حاجز الجمارك حيث يقف بضعة شبان من هيئة تحرير الشام، يلوحون بأيدهم ايذاناَ بالدخول. كل المباني المجاورة يلفّها الصمت، ويسكنها الهدوء. في الجوانب تجد بعض السيارات المحترقة، وأخرى اخترقها الرصاص، كلها لا تزال بأماكنها.

حاجز الفرقة الرابعة خالياً
يستقبلك شبان بضحكات، وبعبارة “أهلاً وسهلا عمي، الحمد لله على سلامتكم”. تشق الطريق باتجاه حاجز الفرقة الرابعة، تجده خالياً أيضاً، يقول السائق هنا كانوا يعملون على تشليح الناس. على يمين الحاجز رقم هاتف للشكاوى، تسأل السائق عن سبب عدم تقديم الشكاوى بحق من كان يعمل على التشليح، فيجيب: “سترتد علينا بمذلة، وكان الأفضل لنا أن ندفع ونمشي”. من هناك تصل إلى مفترق طرق، باتجاه “المتحلق الجنوبي”، أو يميناً، بعد حاجز الزبداني يصادفك حاجز ثان للفرقة الرابعة، خال تماماً إلا من بقايا مخلفات عسكرية محترقة، دبابة منقلبة على جانب الطريق، وغرف حرس محترقة.

في مساكن الديماس لا تزال الأعلام السورية بالأحمر مرتفعة، تجاورها أعلام روسية. مساكن الفرقة الرابعة خالية تماماً، على طول الطريق لا تصادف أحدا. بعدها يسلك الطريق باتجاه منطقة المزّة واوتوسترادها، في تلك المنطقة نفذت إسرائيل عمليات اغتيال بحق شخصيات في حزب الله ومسؤولين إيرانيين، وفيها يقع مبنى السفارة الإيرانية الذي بدا بلا حركة. يؤدي الطريق إلى ساحة الأمويين. جموع من الناس تتحلق حول الدوار، وحول “السيف الأموي الدمشقي الشهير”. أناس تهتف احتفالاً، ومجموعات من الشبان والفتيات تعمل على تنظيف الطرقات، على أنغام أغنية عبد الباسط الساروت جنة جنة جنة.. جنة يا وطنّا”.

تساؤلات حول اليوم التالي
في موازاة الاحتفالات بدت المدنية تستعيد حياتها رويداً رويداً، وسط تساؤلات كثيرة من الناس حول اليوم التالي. تلّح مطالبهم برؤية سياسية جديدة، عناصر هيئة تحرير الشام والفصائل الأخرى تنتشر في الشوارع لتنظيم السير وحفظ الأمن، بينما يتابع الناس الأخبار السياسية لمعرفة مصير المرحلة الانتقالية، ومآلات تشكيل الحكومة. اختار قائد هيئة تحرير الشام أحمد الجولاني محمد البشير رئيساً لحكومة تصريف الأعمال حتى الأول من شهر آذار المقبل. اختيار طرح الكثير من التساؤلات في صفوف السوريين لا سيما المعارضين السياسيين، الذين اعتبروا أنه يجب اختيار شخصية أخرى انسجاماً مع الوضع الجديد الذي تعيشه سوريا وفي سياق إعطاء نموذج يشكل دفعاً سياسياً إيجابياً للداخل والخارج. في المقابل، هناك من يجيب بأن هذا الاختيار مرحلي ومؤقت وله حسابات كثيرة أولها أن لا يبدو الشعر وكأنه تخلى عن أهل الشمال ومناطقه، وطالما أن المعركة الأساسية انطلقت من إدلب، فأراد الاحتفاظ بحق إدلب وأهلها، علماً أن هذه الحكومة ستكون لتصريف الأعمال ووضع برنامج واضح للمرحلة الانتقالية وهو سيكون التحدّي الأبرز الذي ستواجهه سوريا، وسط انطلاق مشاورات سياسية فعلية مع جهات حكومية وإدارية وتنفيذية، ومع قوى المعارضة السياسية على طريق إعادة إحياء الدولة ومؤسساتها، وبناء مشروع سياسي جديد قائم على الديمقراطية ويحفظ التعددية السورية، وكيانية الدولة في مواجهة أي محاولات للهدم أو للتخريب أو لزرع الشقاق وبذور التقسيم وفق المسار المفضوح الذي يعمل عليه الإسرائيليون.