كتب عادل مشموشي في اللواء:
يبدو أن منطقة الشَّرق الأوسط التي لم تزل تطفو على صفيح ساخن منذ الحرب العالميَّة الأولى، كانت منذ السابع من تشرين الأول من العام 2023 على موعدٍ مع سِلسلةٍ من الزَّلازلِ المُتلاحِقَةِ، بدأت بزلزالِ طُوفانِ الأقصى الذي أدّى إلى سحقِ قِطاع غزَّة، لن تنتهي بزلزالِ سوريا الذي أسقَطَ نِظام آل الأسدِ برموزه وتماثيلِه، مُروراً بزلزال لبنان الذي تسبَّبَ في انهيار بنيتي حزب لله السياسيَّةِ والعسكريَّةِ وتدميرِ آلاف الأحياء السَّكنيَّة في مئات القُرى والمدن اللبنانيَّة بما في ذلك العاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبيَّة، وقد خلَّفت تلك الزَّلازلُ عشراتِ آلاف القتلى ومئات الآلاف من المُصابين والمَفقودين، هذا عدا عن خسائر ماديَّةٍ يصعبُ حصرها إنما إصلاحَها يتطلبُ سنواتٍ عدَّةٍ ومئات المليارات من الدولارات.
لبنان الذي تجاهرُ دَولتهُ برفعِ شعارِ النَّأي بالنَّفسِ عما يحصل في منطقةِ الشَّرقِ الأوسطِ يبدو أنه لم يَستطِع تجنُّب مَخاطرَ ارتداداتِ الزَّلزالين الفلسطيني والسُّوري، كما لم ينجَحَ في تلافي انفِجار ثالثٍ على أرضِه، لأنه لم يلتزِمَ عمليًّا بمقتضياتِ الشِّعارِ المنوّه عنه. إن الزَّلازلِ الجيوسياسيَّةِ التي أشرنا إليها، وإن كانت من صنيعِ بني البشرِ إلَّا أنها من حيث مَخاطِرِها الإستراتيجيَّةِ لا تقِلُّ خطورةً عمَّا تتسبَّبُ به الكوارثُ الطَّبيعيَّة، وكذلك الأمرُ بالنِّسبةِ لمضارها المعنويَّةِ والبشريَّةِ والماديَّة، وهي رغم كل الأزماتِ التي أحدثتها لم تخلُ من الإيجابيَّاتِ التي يمكنُ لأصحابِ القرارِ على المُستوياتِ الدَّوليَّةِ والإقليميَّةِ والمحليَّةِ الإفادةِ منها، فيما لو بنوا عليها في استلهامِ العِبرِ واستِغلالِ نتائجِها ونتائجَ ما سيتبُعُها من أحداثٍ مُفصليَّةٍ، بغيةَ تثبيت مُرتكزاتِ الاستقرارِ والأمن والنُّهوضِ لمُعظَمِ دولِ منطقةِ الشَّرقِ الأوسطِ بما فيها لبنان.
وربَّ تساؤل مشروعٌ عما إذا كانت الكوارثُ والحُروبُ، بما تسبَّب به من أزماتٍ وخَسائرَ، فعلًا تحمل في طيَّاتها إيجابيَّات؟؟؟ ونكتفي بالتَّأكيدِ على أهميَّةِ استخلاصِ العِبرِ واستِقاءِ الدُّروس واستِغلالِ الفُرصِ المُستجدَّةِ عالى ضوئها لتحقيقِ مُستقبلٍ أفضلٍ وواعدٍ لبعضِ شُعوبِ المِنطقَةِ ودُولِها، ولبنان جزءٌ لا يتجزَّأ منها، ولطالما دفع أثماناً باهظةً لانعدامِ الاستقرارِ والصِّراعاتِ التي كانت تحصلُ بين الفينةِ والأخرى بين القوى المُتنازعَة. وهذا ما يدعونا للتَّطرُّقِ إلى التَّحدِّياتِ التي تُمليها المُستجداتُ التي أشرنا إليها وما سيتلوها من أحداثٍ يمكنُ للبنان الإستفادةِ منها في تحصين ذاته وتحقيقِ بعضٍ من مَصالِحه، وكي لا تُفوَّتُ فرصٌ جديدةٌ على غرار ما كان يحصلُ سابقاً نتيجةَ خلافاتنا العبثيَّة، ويمكنُ إدراج تلك التَّحدِّياتِ ضمن محورين: داخلي وخارجي:
أولًا: التَّحدياتُ الدَّاخليَّة: وتتمثَّلُ في مسائلَ عدَّة أهمها:
أ- إعادةُ إحياء السُّلطاتِ الدُّستوريَّةِ بدءاً بانتخابِ رئيسٍ للجمهوريَّة، وتشكيلِ حكومةٍ جديدةٍ تعمل بكامل صلاحياتها، وترعى إجراء انتخاباتٍ نيابيَّةٍ مُبكِّرة تأتي بوجهٍ جديدةٍ غير ملوَّثة بالفَساد.
ب- تعزيزُ قُدراتِ الجيش اللبناني وتبنّي استراتيجيَّة دفاعيَّة واضحةِ المعالم، تمهيداً لبسطِ سيادةِ الدَّولةِ على كامل إقليمها، من خلال ومُعالجة مَشكلة السِّلاح غير الشَّرعي وحظرِ حيازةِ الأسلِحة لدى أيٍّ من التَّنظيماتِ اللبنانيَّة وغير اللبنانيَّة.
ج- تعزيز الأجهزة الأمنيَّة عديداً وعِدةً وتسليحاً، بعد إعادَةِ النَّظرِ بالقوانين التي ترعى تنظيمها وتحديدِ صلاحياتها، لتتمكَّنَ من إحكامِ سيطرتها الأمنيَّة على كامل الأراضي اللبنانيَّةِ بما في ذلك داخلَ المُخيَّماتِ الفلسطينيَّة.
د- حصرِ حيازةِ الأسلحةِ ونقلها بالأجهزةِ العَسكريَّةٍ والأمنيَّةِ الرَّسميَّة والأشخاص المُرخَّص لهم بذلك، كما معالجة ظاهرة انتشار الأسلحة الفرديَّة المُتفلِّتة (غير المُرخَّصة)، مع إعادة تنظيم عمليَّة منح تراخيصِ حِيازة ونقل أسلحة تجنُّباً لإساءةِ استِخدامها.
هـ- تعزيزُ القِطاعِ العامِ بإعادةِ النَّظرِ بهيكليَّتِه ورفدِه بالكفاءاتِ وفقَ الأُسسِ القانونيَّة المبنيَّةِ على الكفاءةِ والمساواة في الفرصِ أمام جميع المواطنين المُستحقين.
و- دراسة ملفَّات المُجنَّسين حديثاً وسَحب الجِنسيَّة اللبنانيَّة ممن استحصلوا عليها (خلال عقدين من الزَّمن)، ما لم يكونوا قد قدَّموا فعلاً خدماتِ جلَّة للبنان، يَستحقون المُكافأة على أساسها بمنحهم الجنسيَّة اللبنانيَّة.
ز- تعزيزُ الإجراءات الأمنيَّة على امتداد الحدود البريَّة والبَحريَّة، وبصورة خاصَّة على منافذ العُبور المُعتمدةِ رسميًّا (معابر، مطارات، موانئ) للحدِّ من تهريب المَمنوعاتِ عبرَها.
ثانيًّا: التَّحدياتُ الخارجيَّة:
أ- تكريس وقف إطلاق النار مع العدو الإسرائيلي، واستكمال عملية ترسيم الحدود البريَّة والسَّعي إلى إحياء اتفاقيَّة الهدنة الموقع برعاية الأمم المتحدة ما بين لبنان والعدو الإسرائيلي.
ب- تبنّي سياسةٍ سياديَّةٍ تجاه تنظيمِ علاقةِ لبنان بمُختلف الدُّولِ الشَّقيقةِ والصَّديقةِ وفقاً لمبدأ التَّعاملِ بالمثل، وعلى نحوٍ يرعى مصالِح الدُّولةِ اللبنانيَّة، ووفقَ الأطرِ الدُّبلوماسيَّةِ، وحظر أي تعامُلٍ خارج إطار الدَّولةِ وإداراتها الرَّسميَّة بما في ذلك قبولُ المُساعداتِ والهباتِ بكُلِّ أشكالها العينيَّةِ والمادِّيَّة.
ج- إعادةُ النَّظر بجميع الاتفاقيَّاتِ الدَّوليَّة تتعارض مع المصلحة الوطنيَّة، بما في ذلك الاتفاقيَّات الثنائيَّةِ المُبرمة بين لبنان وسوريا على نحو يضمنُ سيادةَ كل دولةٍ على إقليمها ويُحقِّقُ المُصالحَ المُشتركة لكلتي الدَّولتين على نحوٍ متوازن، وإنشاء لجنة مشتركة تُعنى بإجراء التَّعديلات اللازمة على الاتفاقيات المُوقَّعة بين البلدين.
د- معالجةُ مشكلة النَّازحين بين لبنان وسوريا، وتشكيل لجنة مُشتركة بين الدَّولتين ترعى عودةً كريمةً لهم إلى دِيارِهم خلال فترة ثلاثة أشهر قابلةٍ للتَّجديدِ لمرَّةٍ واحدة. ومقاربة الوجودِ غير الشَّرعي لرعايا دُولٍ أُخرى وفق الاتِّفاقياتِ والنُّصوصِ القانونيَّة النافذة.
هـ- ضبطُ الأمن على امتدادِ الحُدود البريَّةِ والبحريَّة بين لبنان وسوريا، وإقامة نقاط مراقبة مشتركة، وغرفة عمليات مُشتركة تعنى برصد ومتابعة ومكافحة عملياتِ تسرُّب الأشخاصِ بين الدَّولتين خارج إطار منافِذِ العُبور الرَّسميَّة، كما مُكافحةِ عملياتِ التَّهريب بكُل أشكاله سواء للأسلِحة أو المخدراتِ أو لأيَّة مواد أو منتجات يَحظرُ تصديرها أو استيرادها بما في ذلك المواد الأوليَّة والغذائيَّةِ المدعومة.
و- معالجةُ مشكلةُ اللاجئين اللبنانيين والسُّوريين في كلتي البلدين، على نحو يُحظَرُ توفير اللجوء السياسي لأيِّ سوري في لبنان، ولأي لبناني في سوريا، حِفاظاً على طيب العلاقاتِ والتزامِ كلِّ دولةٍ بمُقتضياتِ حُسنِ الجوار تجاه الدَّولةِ الأخرى.
ز- تعزيزُ التَّعاون القضائي والأمني بين لبنان وسوريا من خلال إعادة النَّظر بالاتفاقيَّات الثنائيَّة ذات العلاقة، بما يكفل ملاحقة المطلوبين للعدالةِ ومنع توفير الملاذ الآمن لأي منهم، وبخاصَّة المُلاحقين في أي جريمةٍ من الجرائمِ المنظَّمةِ، بما فيها جرائم الإرهاب والاتِّجار غير المشروع بالمخدرات أو الأسلحة أو بالبشر. كما وتسهيل تبادلِ المَحكومين مع مراعاة إمكانيَّة تنفيذِ المَحكومين بعقوبات مانعةٍ للحريَّةِ في الدَّولةِ التي يَحملون جنسيَّتها.
ح- تشكيل لجان قضائيَّة وأمنيَّة مشتركة بين لبنان وسوريا، لمعالجة مشكلة المفقودين والمُحتجزين وضَحايا التَّعذيب القهري في أي من البلدين وتسهيل مُلاحَقَةِ المتورطين بأيٍّ من هذه الجرائم الواقعة على أي مواطنٍ على أراضي الدَّولةِ الأُخرى، على نحو يضمن ملاحقة الضَّالعين فيها والتَّعويضِ على المُتضرِّرين منها.
ط- تعزيز التَّعاون الاقتصادي بما يخدم مصالح الدَّولتين على نحو متوازن، وخاصَّةً في مجال حمايةِ المنتجات الزِّراعيَّة والصِّناعيَّة الوطنيَّة، والتَّنسيق في ما بين الدَّولتين لإعادة العمل بمِصافتي الزَّهراني والتَّابلين لتصدير المنتجات النَّفطيَّة العراقيَّة، كما لإنشاء منصات لتصدير مختلف مواد الطَّاقة من دولٍ عربيَّة راغبةً بذلك.
ي- تَشكيلُ لجنة قضائيَّة – مصرفيَّة مشتركة لبنانية – سوريَّة تُعنى بتجميد الأرصدة الماليَّة المَشبوهَةِ سواء المهرَّبة من سوريا إلى لبنان أو العكس، لمنعِ تهريبها إلى دُول أخرى، وتخصيصٍ قسم مما يُقضى بمُصادرته للتَّعويض على ضحايا الإخفاء والتَّعذيب في كلتي الدَّولتين.
ك- التَّنسيق بين الجهات المُختصَّة في كل من لبنان وسوريا لتسهيل التَّعاون وإعادة الإعمار بين البلدين، وإنشاء لجنة مشتركة تشكَّل من قبل مُهندسين ومُقاولين ومتموّلين من ذوي الخُبراتِ الواسِعةِ في هذا الميدان، لرفع مستوى التَّعاون بين الشَّركاتِ الوطنيَّةِ في كلتي البلدين وتبادلِ الخُبراتِ الفنيَّة.
إن التَّحديات التي أشرنا إليها ينبغي أن تتصدَّر اهتِماماتِ المسؤولين في كل ما يندرج ضمن العلاقات الثنائيَّةِ ما بين لبنان وسوريا، على أن يُصارَ إلى مقاربَةِ الأمورِ بكُلِّ مَسؤوليَّةٍ ومُصارحةٍ وشفافيَة.