كتب أنطوان مراد في “نداء الوطن”:
كلما تقدّم الوقت وتكشفت وقائع، تحوّل الغضب من اتجاه إلى آخر، والعتب إلى مرارة. وعلى ما يقول طبيب يعمل في قضاء بعبدا، وهو مسيحي ومعظم مرضاه من الضاحية الجنوبية، إن الجرح لا يؤلم كثيراً عندما يكون ساخناً، أما عندما يبرد فيستحيل وجعاً لا يُحتمل أحياناً. هذه حال العديد من أهل الضاحية الذين يقصدونه ويُسِرُّون له بما يختلج في قلوبهم.
ويروي الطبيب ما دار بينه وبين سيدة في مقتبل العمر عندما حاول التخفيف عنها مازحاً لدى مغادرتها العيادة فقال لها:”ولا يهمِّك، فدا المقاومة”، فأجابته على الفور: “له يا حكيم، مش فدا حدا ولا فدا شي، هيدا الحكي للإعلام مش أكتر. إذا انكسرت مزهرية في الدار نزعل وننفعل، فكم بالحري عندما نخسر أولادنا أو يصابون بإعاقة. إننا كما كل الأهل، نربي أولادنا بدموع العينين، والعديد من الشباب الذين استشهدوا عبثاً هم من المهندسين وخبراء المعلوماتية وطلاب الجامعات…”.
ويقول رجل أعمال سابق: “أنا كآلاف سواي، من أبناء الجنوب الذين هاجروا إلى أفريقيا وعادوا إلى لبنان ليستريحوا وينعموا بما جنوا. بنيت بما جنيت فيللا أنيقة مع حديقة واسعة ومسبح، وكنت مرتاحاً للاستقرار في بلدتي وبلدي، وإذ، بين ليلة وضحاها، صار كل شيء خراباً، وراح جنى العمر مع الريح، علماً أن العمر لم يعد يسمح لي بالعودة إلى أفريقيا للبدء من جديد. بل إنني أعتبر أن وضعي أصعب من وضع أبناء الضاحية حيث أن إعادة إعمار بيوتهم لا تقاس باستعادة ما خسرت”.
وتقول معلمة من الضاحية لزميلتها وجارتها حيث تسكن موقتاً في برج حمود: “لقد تعبنا ومللنا. من قال إن بيوتنا لا قيمة لها ويمكن تعويضها؟ إن بيوتنا هي الحضن الذي ربينا فيه، وفيها ذكرياتنا وطفولتنا وشبابنا ومفاصل حياتنا، وهذا كله لا يُعوّض. ماذا يعني لي أن أعود الى منزل جديد بارد لا أعرفه، إنه يشبه المنزل الذي أسكن فيه مضطرة كنازحة. والأدهى، إذا كان علينا أن نعيش حرباً جديدة بعد حين، نتيجة سياسات خاطئة. إنه أمر غير معقول. لا نريد إلا الحياة الهادئة الكريمة”.
هذا غيض من فيض ما تنضح به البيئة الحاضنة لـ”حزب الله”، والتي لا يتردد العديد من أبنائها في إبداء التعاطف مع “الحزب”، خصوصاً بعد فقدان السيد حسن نصرالله، لكنهم يكتفون بهذا التعاطف ويقولون: “إن قلبنا مع المقاومة، ولكن لم نعد نثق بقيادتها وتوجهاتها التي تسببت بخيبة هائلة. ونحن نعرف أن المئة دولار خلال النزوح أو الخمسمئة دولار كبدل سكن لا توازي شيئاً، ولو تمت مضاعفتها عشر مرات أو عشرين مرة، ونشك في القدرة على ذلك. في أي حال، المسألة تتخطى الاعتبارات المادية، لأننا نريد أن نكمل حياتنا، بعد تعثر إيقاعها وتبدُّل أولوياتها في ما خص المعيشة والدراسة والعمل”.
ويقول دبلوماسي مخضرم يملك شبكة علاقات إقليمية ودولية وازنة، إن مسألة التعويضات والمساعدات شائكة جداً، وليس هناك أي استعداد عربي أو دولي لتقديم المساعدات أو القروض عبر القنوات التقليدية السابقة، أي عبر الدولة التي تسيطر عليها الدويلة، إلا إذا انحسرت هذه السيطرة وكانت الرقابة مشتركة ومتشددة بين الهيئات والدول المانحة وبين الإدارات أو المؤسسات المعنية محلياً.
ويلخص الأوضاع الراهنة قائلا: “فليصبر المنكوبون بخاصة واللبنانيون بعامة، حتى تستقيم الأوضاع ويُنتخب رئيس يتمتع بالمواصفات القيادية بالحد الأدنى، وتستعيد الدولة صدقيتها وشفافيتها، كي يشهد لبنان نهضة ملفتة قد تترافق مع تحسن قيمة العملة الوطنية، على غرار ما حصل في سوريا مع سقوط نظام الأسد. ولكن على “حزب الله” أن يدرك جيداً، ان إعادة الإعمار هي في جانب منها شكل من أشكال الاستثمار، الذي يشمل بمروحته لبنان وسوريا أيضا، ولن يكون لروسيا أو للصين إلا حصة محدودة، بينما الحصة الكبرى ستكون للغرب وعدد من الدول العربية الغنية وبقيادة وتنسيق أميركيين. فما كان يسمى بطريق الحرير انتهى قبل أن يبدأ، بل إن العملاقَين الروسي والصيني ينصرفان إلى تقييم التفوق التكنولوجي الهائل الذي يتمتع به الأميركيون بشكل خاص كما أظهرت الحرب الأخيرة في لبنان وغزة، والذي يعكس تفوقاً في القدرات المالية والاقتصادية والعسكرية في آن واحد، ما حرم الروس والصينيين من سوق كانوا يراهنون أن تكون سوقاً منافسة لأسواق الخليج وأوروبا”.