IMLebanon

الدفاع المدني في سنة لا تُمحى من الذاكرة

كتبت لوسي بارسخيان في “نداء الوطن”:

بعد غدٍ، في آخر ساعات العام 2024، وأثناء تنقلنا على الطرقات في استقبال عام جديد، تعالوا نلقي التحية على عناصر الدفاع المدني المنتشرين على الأوتوسترادات والمستديرات وعلى زملائهم في الصليب الأحمر اللبناني. فالموجودون لتأمين السلامة العامة بهذه الليلة، هم شباب مندفعون للعمل التطوعي، وقد اختبروا سنة 2024 تحدّيات قد لا تمحى من الذاكرة. وهم بالتالي يستحقون كل تقدير.

ليلة عيد الميلاد، أي قبل نحو أسبوع من اليوم، انضم عبدالله المهدي المتطوع الاختياري في الدفاع المدني، مع زميله في فوج إطفاء طرابلس المعاون خليل الأشقر، إلى بلال رعد رئيس مركز بعلبك الإقليمي و26 عنصراً من مختلف المراكز الإقليمية للدفاع المدني سقطوا على مذبح الواجب في العام 2024. هو الثمن الأغلى في عام، خلّف أيضاً 74 عنصراً ومتطوعاً مع ندوب إصابات بعضها لا يزال يعالج حتى الآن. فيما الأضرار المادية جسيمة كذلك في 31 مركزاً و45 آلية بعضها دمر وتضرّر بشكل كامل.

مع ذلك لم تتراجع عزيمة متطوعي الجهاز. “للحريق والغريق وخطر الطريق” هم. الشرّ الثلاثي الذي نناجي الله أن يبعده عنا، هناك من يتطوع لمواجهته، وباللحم الحي. ففي الحريق هم موجودون، وفي الفيضانات وغرق الطرقات، وفي الأحداث والحوادث. ولبنان كان حافلاً بكل هذه الشرور طيلة هذا العام. وكلها خلّفت وهناً في جسم متهالك بالأساس.

بلال رعد بطل أصعب الشرور

أبناء البيئة التي يندفعون لخدمتها هم هؤلاء الشبان. وأياً كانت الهفوات التي أوقعتهم في أفخاخها، يكفي اندفاعهم في عمل إنساني من ضمن الأجهزة الرسمية، حتى يتحول موتهم في العدوان الإسرائيلي الأخير، قضية وطنية، تستحق بذل الجهود لانتزاع ولو اعتراف دولي بمجازر ارتكبت بحق الإنسانية.

فمن يمكنه أن ينسى صوت بلال رعد في مفاوضته عدواً على طرف آخر، كي يكسب وقتاً كافياً يبعد أبناء مدينته بعلبك عن شرّ إنذاراته. خلت بعلبك يومها من 80 في المئة من أهلها، ومن بينهم عائلات عناصر الدفاع المدني. أما هم فقد لازموا مركزهم، وبقوا حتى آخر ساعة متأهبين في تأدية الواجب.

“ترجّيته ليغادر” يقول جوزف أبو شعيا رئيس شعبة الخدمة والعمليات في الجهاز لـ “نداء الوطن”، “لكنه لم يقبل”. من ثكنة عسكرية أدار العمليات لأيام قبل أن يعود إلى المركز الذي سوي بالأرض على رأسه و11 من زملائه. فهل هناك تضحية أكبر من هذه التضحية. “إنها الغصة بالقلب” يقول أبو شعيا. “فالخسائر المادية تعوض، أما خسارة الرفيق فمن يداوي جرحها؟”.

طيبة جداً سيرة رعد بين أهالي مدينته. وهذه سمة شبه عامة في شباب الدفاع المدني المندفع للخطر بكامل إرادته. فهل جعلتهم الحرب يترددون في خياراتهم؟

بحزم يجيب أبو شعيا “أبداً لا.. بل نحن نزداد عزيمة. و”مكملين” الرسالة بنفس الاندفاع والشجاعة”.

كانت الحرب طبعاً أصعب الشرور. ليس لأنها لم تكن متوقعة، لكن لأن الدفاع المدني غارق أيضاً بإهمال مشابه لحال معظم المؤسسات المترهلة.

الطاقة المستمدة من الإنسانية

تزامن كل ذلك إلى أبعد من خطوط المواجهة المباشرة، مع موسم الحرائق. فزاد من مشقة هذه المهمة البديهية الأولى للدفاع المدني. حتى الاستعانة بآليات المراكز صارت أصعب. لا التنقلات بقيت آمنة، ولا الجهوزية المطلوبة في المناطق الحمراء سمحت بذلك. مع ذلك لم يقصّر الشباب. بل اندفعوا في كل مهمة فرضت عليهم، وفي الليل عندما كانت تهدأ الأمور كانوا ينتقلون لتأمين المياه إلى مراكز الإيواء.

بعدد محدود من الخوذ والسترات الواقية وحتى قوارير الأوكسيجين، عملوا في البداية. وكانوا يتبادلون كلاً منها في ما بينهم ويتناوبون على استخدامها. يقول أبو شعيا “عندما كان الشباب يفتقدون لرفش يعملون بأيديهم، وفي بعض الأحيان مزقوا ثيابهم لاستخدامها في عملية إنقاذية”. إلا أن المديرية التي وضعت كل مواردها بتصرف فرق الإنقاذ، عملت جاهدة لتأمين الهبات التي أتت بتجهيزات إضافية.

لا يهم حجم الطاقات التي استنزفت. استمد شباب الدفاع المدني طاقتهم الكبرى من إنسانيتهم. وهل هناك أسمى من مشهد ذلك الطفل الذي حضنه عنصر الدفاع المدني “سمير الشقية” في بلدة الكرك وهو يهدّئه بكلمة “يللا يا حبيبي” وسط ركام منزل قضى على معظم أفراد عائلته؟

ربع إنصاف لعناصره

يُشبه أبو شعيا دينامية الدفاع المدني بعقارب الساعة. فنحن كما يقول “كعقرب الثواني الذي يستمر بالدوران، وإذا توقف توقف معه الزمن. وبالتالي “ما زلنا مستعدين للثلوج وذوبانها، الفيضانات، الحرائق، البحر وغرائقه، الحروب، وللأعياد أيضاً. وستروننا على الطرقات ليلة رأس السنة لتأمين السلامة العامة”.

إلا أن ذلك لا يعني أن الجهاز وعناصره بخير. هم أيضاً غارقان بإهمال كذلك الذي يتجسد في غرق طرقاتنا بمياه الأمطار عند أول شتوة. وهذا الإهمال جعل ملف تثبيت عناصر الدفاع المدني وإنصافهم مادياً يستغرق عقداً من الزمن. فشاخ بعض العناصر قبل أن ينتزعوا حقوقهم.

في جلسة من أربع جلسات يتيمة تشريعية انعقدت في مجلس النواب خلال العام 2024، حضر ملف الدفاع المدني كأولوية إلى جانب التمديد للمجالس البلدية. فأنصف نحو 2124 عنصراً بحقوقهم المالية، من ضمن عملية تنظيم لهيكلية الجهاز من أجل تحسين أدائه، وبقي نحو ستة آلاف عنصر آخرين من دون تثبيت، وهذا ما يكرس اللاعدالة بين عناصر الجهاز، الذي يحتاج لكل طاقة شابة أضيفت الى هيكليته خلال الأعوام العشرة التي فصلت بين صدور قرار التثبيت وتطبيقه.

أما العبرة التي خرج منها الجهاز بعد الحرب بحسب أبو شعيا فهي في ضرورة تعزيز جهوزيته، لمواجهة كل الموجات. وبرأيه “على الرغم من الرعاية التامة التي تؤمنها المديرية ووزارة الداخلية وسعيهما الدائم لتحسين الأداء، نحن بعيدون في هيكليتنا عن المعايير العالمية، وبحاجة لتعزيز العناصر وملء الشواغر البشرية واللوجسيتة”. لكن الأهم حالياً كما يقول “أن نشفى نفسياً من تداعيات سنة تركت خلالها الحرب آثاراً مدمرة، ليس فقط علينا إنما على جميع اللبنانيين”.