IMLebanon

خلط للأوراق والتحالفات وتبدّل في موازين القوى

كتب شارل جبور في “نداء الوطن”:

تطلق الأحداث الكبرى ديناميات سياسية تؤدي إلى كسر حالة الجمود وخلط الأوراق والتحالفات والتموضعات. ففي زمن الاحتلال السوري للبنان حافظت الحياة السياسية على نمط معيّن على مدى عقد من الزمن، ولكن مع خروج الجيش الإسرائيلي، وهو حدث كبير، ومن ثم موت حافظ الأسد، وهو حدث مهمّ، تفلّتت الحياة السياسية من قيودها وضوابطها، وقد تكفّل البطريرك مار نصرالله بطرس صفير بفكّ عقدة الألسن مع بيان مجلس المطارنة الموارنة المطالب بخروج الجيش السوري، فأطلق دينامية بدأت مسيحية وتحوّلت وطنية وأدّت في نهاية المطاف إلى خروج جيش الأسد من لبنان.

كان يُفترض بالدينامية الوطنية غير المسبوقة في التاريخ اللبناني التي أخرجت جيش الأسد، أن تعيد الاعتبار لمشروع الدولة، ولكنها لم تتمكّن من مواصلة صعودها وتقدّمها بسبب توسُّل “حزب الله” العنف الذي حوّل سلاحه إلى أمر واقع أدّى إلى تجميد الحياة السياسية تحت سقف هذا السلاح في ظل انقسام دائم بين من معه ومن ضده وصولاً إلى “طوفان الأقصى” الذي دمّر القوة العسكرية لكل من “حماس” و “حزب اللّه” وأخرج نظام الأسد من المعادلة السورية وخرجت معه إيران التي قُطِع طريق إمدادها للحركة و “الحزب”.

وإذا كانت النتيجة العسكرية للحدث السوري فورية وأبرزها خروج الساحات السورية واللبنانية والفلسطينية من السيطرة الإيرانية، فإن الوجه السياسي لهذا الحدث لن تتكشّف معالمه قريباً وتحديداً في لبنان الذي سيتأثّر كثيراً بالزلزال السوري، إذ ليس تفصيلاً أن ينتهي حكم البعث الذي بدأ منذ ستينات القرن الماضي، وأن تستعيد الطائفة السنية حكمها على سوريا، هذه الطائفة التي استهدفها نظام الأسد في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، وشاهدت رموزها تتساقط تباعاً من ياسر عرفات إلى رفيق الحريري وصدام حسين، وتمّ الانقلاب على حكمها في العراق وتطويقها في لبنان.

النتيجة السياسية للحدث السوري ستكون بعيدة المدى لسببين أقلّه: كون السلطة الجديدة في سوريا بحاجة إلى الوقت من أجل تثبيت حكمها، ولأن الأنظار ما زالت مشدودة على “حرب الطوفان” وجولتها الكبرى بين نتنياهو وخامنئي على الأرض الإيرانية، خصوصاً أن نهاية هذه الحرب سترسم معالم الشرق الأوسط الجديد بتوازناته وتقاسم النفوذ الإقليمي السياسي داخله.

وما هو أكيد، حتى قبل اكتمال فصول “حرب الطوفان”، أن إيران لم تعد القوة الكبرى في الإقليم والأكثر تأثيراً، وتراجع أي قوة يعني تقدُّم قوة أخرى، وتراجع التأثير الإيراني لن يقتصر على عودة مشروع ثورتها التخريبي إلى داخل حدودها، إنما سيتأثّر المكوِّن الشيعي الذي شكل جزءاً من هذه الثورة في كل من العراق ولبنان، وذلك مقابل تقدُّم المكوِّن السني في بغداد وبيروت وفي ظلّ معادلة إقليمية جديدة نقطة ارتكازها حاكم سني في دمشق يستمدّ قوّته من أنقرة.

هناك نشوة طبيعية للسنة في سوريا والعراق ولبنان، وتقدُّم للدور التركي، وعلى الرغم من أنه محكوم بالتعاون مع المملكة العربية السعودية التي من دونها لا إعمار في سوريا، إلّا انه إذا أحسن إدارة الملف السوري يُضاعف تأثيره في العراق ويُصبح أكثر تأثيراً في لبنان.

فالمتضرِّر الأول والأكبر من “حرب الطوفان” هو السلطنة الإيرانية التي أنهتها الحرب وأعادتها إلى داخل حدودها، والمستفيد الأول والأكبر من الحرب هو السلطنة التركية الجديدة، فالتراجع الشيعي الإيراني سيقابل بتقدُّم سني تركي.

وفي هذا الإطار، لا بدّ من التذكير بما كان يردِّده المرشد الأعلى علي خامنئي من أن “سوريا هي عند الخط الأمامي للمقاومة ضد إسرائيل، وهي ركيزة هذه المعركة”، أو ما كان يشدِّد عليه السيد حسن نصرالله من أنه “إذا سقطت سوريا سقط المحور معها وضاعت فلسطين”، والمقصود أن المشروع الإيراني في المنطقة ارتبط بالارتكاز على الوجود في سوريا، وذلك للدلالة على الأهمية الاستراتيجية للمسرح السوري الذي سيشكِّل نقطة الارتكاز للمشروع التركي في المنطقة.

الثابت إذاً، أن المستفيد الأكبر من خروج الأسد وخامنئي من سوريا هو أردوغان، ولكن مشروعه الإقليمي يتوقّف على حُسن إدارته التوازنات والصراعات، وأكثر من تميّز بحسن الإدارة كان الرئيس حافظ الأسد الذي نجح في ترسيم علاقاته مع الخصوم والحلفاء من دون أن يشكل تهديداً لأحد، وهنا بالذات يكمن التحدي أمام أردوغان بألّا يشكل مشروعه تهديداً لإسرائيل من جهة، وللمشروع العربي بركنيه السعودي والمصري من جهة أخرى.

وعلى الرغم من المظلة السعودية للبنان والطائفة السنية تحديداً، إلّا أن المملكة دولة مسالمة ودورها الأساسي يرتكز على عاملي الاستقرار والازدهار، فيما السنة كانوا يشعرون بالاستضعاف في ظل دولة إيرانية، وبالتالي لا بدّ أن يتأثروا بالتطوّر السوري الذي أعاد الحكم في دمشق للسنة، أو بالتوسُّع التركي لدولة سنية مقاتلة.

فالوضع السني الذي شهد جموداً وركوداً بين حقبتي الأسد ونصرالله، سيبدأ بالتحرُّك والتفاعل مع أردوغان وأحمد الشرع، وستشهد هذه البيئة صعوداً لتيارات على حساب أخرى، ولن تقف حدود الدينامية التي انطلقت مع التغيير السوري عند الطائفة السنية، إنّما ستتعدّاها إلى البيئات الأخرى وتوازنات البلد الطائفية والسياسية.

فبعد 60 سنة تقريباً على حكم البعث وعودة السنة إلى رأس السلطة في سوريا بدعم تركي أساسي، لا شكّ أنّ لبنان سيكون تحت تأثير هذا الزلزال الكبير الذي سيعيد خلط الأوراق والتحالفات، وسيبدِّل موازين القوى داخل البيئة السنية اللبنانية وخارجها، والتحدي الأساسي للاستقرار اللبناني يتوقّف على خمسة عوامل أساسية، وكل عامل فيها بحاجة لشرح لسنا في صدده الآن: الأول تقاطع الطوائف على مشروع الدولة والدستور، الثاني تمييز السنة بين النشوة والقوة وبين لبنان أولاً، الثالث فهم تركيا حدودَ دورها في لبنان، والرابع التزام الحاكم في سوريا بسيادة لبنان والعلاقة الفعلية بين دولتين، والخامس الدور السعودي كحاضنة استقرار وازدهار للبنان.