كتب شارل جبور في “نداء الوطن”:
يشكّل الدستور اللبناني خليطاً غير مفهوم بين التمثيل الطائفي، وبين تقييد هذا التمثيل، ومردّ ذلك إلى النص الذي وضع في متن هذا الدستور والمتعلِّق بإلغاء الطائفية، فكانت النتيجة أن لا الإلغاء تحقّق، ولا صحة التمثيل تحقّقت، وهذا كان أحد أسباب النزاعات والخلافات بين اللبنانيين، الأمر الذي يستدعي الإقرار بأن تجاوز الطائفية في النظام الذي كان هدفاً للمشرِّع منذ الدستور الأول لم يتحقّق، والأخطر من ذلك أساء إلى جوهر الفكرة المؤسسة للبنان والمتّصلة بتعدّدية المجتمع اللبناني.
ومن الضروري التمييز بين التمثيل الصحيح لمكوّنات البلد الطائفية، وبين الممارسة السياسية التي يجب أن تتقيّد بالدستور والقوانين المرعية. ومن الخطأ الفادح اعتبار أن الطائفية مسبّبة لأزمات البلد، فيما المسبِّب لهذه الأزمات يكمن في عدم الالتزام بالدستور وفي الخروج عن الحياد.
لم تندلع حرب 1975 وما سبقها بسبب الإجحاف في تمثيل المسلمين، إنما اندلعت بفعل تبنّي القضية الفلسطينية على حساب القضية اللبنانية. ويرفض “حزب الله” التخلّي عن سلاحه ليس بسبب صلاحيات يريد انتزاعها، وليس طبعاً دفاعاً عن سيادة لـ “حزب” لا يؤمن بحدود وكيانات وأوطان، إنما ربطاً بمشروعه العقائدي والسياسي واعتباره السلاح الأداة لتحقيق هذا المشروع.
وإذا كان هدف المشرِّع في البدايات نبيلاً سعياً للبنانية سياسية لم تترجم على أرض الواقع، فإن هدف من تبنّى هذا الطرح لاحقاً كان خبيثاً سعياً إلى إلغاء التعدّدية، ولأن ظروف الحرب وما تلاها من احتلال أسدي ووضع يد إيرانية على البلد حالت دون إعادة النظر بخطأ التأسيس، فإن التحوّلات التي شهدها لبنان والمنطقة في الشهرين الأخيرين تستدعي البحث في فكرتين أساسيتين: إما إعادة النظر بالنظام السياسي برمّته، وإما الالتزام حالياً بسقف اتفاق الطائف ولكن مع إلغاء الممارسة الشكلية في هذا الاتفاق.
والمقصود في الفكرة الثانية عدم المسّ بالصلاحيات الموجودة في الاتفاق ولا بالنصوص التي تنظِّم العلاقة بين الرئاسات، إنما إدخال تعديل بسيط يتعلّق بانتخاب الرؤساء الثلاثة من بيئاتهم، بمعنى أن يُنتخب رئيس الجمهورية من المسيحيين، ورئيس المجلس النيابي من الشيعة، ورئيس الحكومة من السنة، ومن دون أي تعديل في صلاحياتهم وأدوارهم وفصل السلطات بين الرئاسات.
فما ينطبق على التمثيل النيابي كان يجب أن ينسحب حكماً على التمثيل الرئاسي، لا بل من الأولى أن يبدأ حُسن التمثيل من الرئاسات، ومن غير المفهوم منح حق الفيتو لطائفة على رئيس من طائفة أخرى، الأمر الذي ولّد ويولِّد حساسيات ونزاعات، فيما على الطوائف أن تتعاون في ما بينها تحت سقف الدستور والقوانين، وهذا ما جعل طريقة انتخاب الرؤساء خاطئة وتسيء إلى تعدّدية المجتمع اللبناني، وقد وضعت ربطاً بالفكرة التي تحكّمت بعقل المشترع وهي الوصول إلى إلغاء الطائفية، الأمر الذي بات يتطلّب إلغاء النصوص كلها المرتبطة بالانتخابات الرئاسية، فلماذا ينتخب نواب الأمة جمعاء رئيس الجمهورية ولا يُنتخب حصراً من بيئته؟ ولماذا نواب الأمة جمعاء ينتخبون رئيس مجلس النواب وبنظام انتخابي مختلف عن النظام المتعلِّق بانتخاب الرئيس، فيما يُفترض أن ينتخب من بيئته؟ ولماذا يكلّف رئيس الحكومة من نواب الأمة فيما وجوده في السراي يعود إلى بيئته وليس للبيئات الأخرى؟ ولماذا هذا التعقيد المولِّد للانقسامات والشغور على غرار ما هو حاصل اليوم؟
فمن يمثِّل المسيحيين يكون رئيساً، وهذا الرئيس عليه أن يتعامل مع من يمثِّل السنة في رئاسة الحكومة والشيعة في رئاسة مجلس النواب. ومن يدفع غالباً ثمن التمثيل الصحيح في الرئاسات ، هو المكوِّن المسيحي بفعل التعدّدية الموجودة داخله والتي تستفيد منها المكوّنات الأخرى للإتيان برئيس من لونها السياسي. وهذا لا يعني إطلاقاً، إلغاء هذه التعددية، إنما تعميمها على البيئات الأخرى من أجل فكّ الاشتباك بين الطوائف ونقل التنافس إلى داخل كل طائفة.
والاستثناء الذي يشكّله الوضع الشيعي، هو استثناء يرتبط بالسلاح الذي من خلاله تحكّم بالقوّة بالساحة الشيعية، ولكن هذا السلاح انتهى، ومن سيحاول استخدامه بعد أشهر سيكون مصيره السجن. ووظيفته تحت مسمّى مقاومة انتهت. وأُقفلت كل المداخل لتمرير السلاح الإيراني. وبالتالي لن يتمكّن الفريق الذي كان يستقوي بالسلاح، من مواصلة مصادرة التمثيل الشيعي. وستنطلق دينامية غير مسبوقة داخل طائفة، القاعدة فيها تاريخياً، هي التعدُّد.
وقد ترافق السعي لإلغاء الطائفية بهدف إلغاء التعدّدية وتحكُّم الطائفة الواحدة بالبلد، مع تشويه التمثيل الصحيح وتصويره بأنه يقود إلى حروب أهلية، فيما الانزلاق إلى الحرب الأهلية لم يكن طبعاً بسبب صحة التمثيل، إنما بسبب احتضان بيئات طائفية مشاريعَ خارجية مسلّحة عطلّت مشروع الدولة اللبنانية، وآخر هذه المشاريع يتمثّل بالثورة الإيرانية التي خرّبت لبنان والمنطقة.
بأيّ منطق مثلاً، يُنتخب رئيس للجمهورية لا يمثِّل بيئته، والفكرة من انتخابه أن المطلوب رئيس “فكة مشكل”؟ وبأي منطق يضع الثنائي الحزبي الشيعي مثلاً فيتو على مرشّح رئاسي، فيما حدود تأثير هذا الثنائي لا يفترض أن تتجاوز حدود انتخاب الرئيس الذي يمثِّل المكوِّن الشيعي؟
ما بني في النظام السياسي على خطأ، قاد إلى خطايا. والخطيئة الإضافية التي ترتكب اليوم، تكمن في الذهاب إلى انتخابات رئاسية وكأن لا النظام السوري سقط، ولا الجسر الإيراني التخريبي تحطّم، ولا سلاح “حزب اللّه” انتهى وظيفة ودوراً. وكان المطلوب قبل الذهاب إلى انتخابات رئاسية، الذهاب إلى الطائف مجدّداً من أجل حوار وطني صريح يُنتج “طائف 2” حول الآتي:
أولاً، الدولة اللبنانية فوق الجميع، ولا سلاح خارجها، وأي محاولة لقيام دويلات تواجه بالقوة. وتكون الحدود البرية والجوية والبحرية بإشراف حصري للدولة.
ثانياً، السعي إلى إلغاء الطائفية تمّ استغلاله وتشويهه واستخدامه لتغليب طائفة على الطوائف الأخرى، وبالتالي المطلوب الكفّ عن هذا السعي، والكفّ عن الكلام المملّ حول طائفية النفوس والنصوص وكل هذه المعزوفة، والإقلاع عن ممارسة فشلت فشلاً ذريعاً. وكل محاولات إنعاشها منذ قرن إلى اليوم، أدّت إلى نتائج معاكسة. وحان الوقت لإعطاء فرصة لمحاولة جديدة، بدلاً من مواصلة إحياء ما هو ميت. بمعنى أن إلغاء الطائفية أدّى إلى عدم استقرار دائم، والمطلوب تثبيت الطائفية لعلّها تقود إلى استقرار ثابت.
ثالثاً، إذا كان متعذراً في حوار “الطائف-2” تغيير النظام من مركزي إلى لامركزي، فلا يجب الخروج من هذا الحوار قبل الاتفاق على نقطتين:
النقطة الأولى، مرحلة انتقالية لستّ سنوات يصار فيها إلى تثبيت طائفية التمثيل الرئاسي والنيابي، أي تغيير قانون الانتخاب من أجل أن تنتخب كل فئة ممثليها، والرؤساء يتم انتخابهم من بيئاتهم، ومع الإبقاء على الصلاحيات نفسها للرؤساء والنصوص الدستورية نفسها.
النقطة الثانية، بعد المرحلة الانتقالية يتمّ الاتفاق إما على تمديدها وإما على تثبيتها وإما على تطويرها.
رابعاً، إذا كان المطلوب أن يكون لبنان رسالة تعايش فعلي بين مكوّناته، فيجب الكفّ عن التكاذب. فلبنان بصيغته الراهنة، رسالة صدام الحضارات في ظل نظام سياسي لم يعرف الاستقرار سوى فترة صغيرة، والفترات الأخرى كلّها تراوحت بين الصدام العنفي وبين عدم الاستقرار السياسي، فيما تلاقي الحضارات الفعلي يكون بالكفّ عن محاولات إلغاء الآخر وتمدُّد الرئاسات وحكم هذه الطائفة على حساب غيرها، والرهان على العدد والديموغرافيا لضرب صحة التمثيل النيابي والرئاسي، وبالتالي المدخل لـ “لبنان الرسالة” يكون بتثبيت الطائفية بانتخاب النواب من بيئاتهم حصراً، وانتخاب الرؤساء من بيئاتهم، وتعاون الجميع تحت سقف دولة واحدة وسلاح واحد.
وعلى قاعدة “من جرّب المجرّب كان عقله مخرّب”، فلا يجوز التجريب مجدداً، إنما طبيعة التحوّلات الاستراتيجية تستدعي “طائف 2” لتثبيت طائفية انتخاب الرؤساء والنواب من بيئاتهم كمرحلة انتقالية ليُبنى بعدَها على الشيء مقتضاه.