Site icon IMLebanon

قطار النهوض بالدَّولة يتّسع لجميع المكوّنات

كتب عادل مشموشي في “اللواء”:

جاء انتخابُ فخامَةِ الرئيس جوزاف عون بمثابةِ بارِقَةِ أملٍ في إطارِ تَصويبِ الأداء السِّياسي في لبنان، إذ أتاحَ المَجالَ أمام جميع القوى السياسيَّةِ للمُساهمَةِ في عمليَّةِ استِعادَةِ الدَّولةِ لمَكانتِها على السَّاحتين الدَّوليَّةِ والعَربيَّة، ووفَّرَ فرصَةً حَقيقيَّةً لقِيامِها بدَورِها كدَولةٍ حُرَّةٍ مُستقلَّةٍ، لها كامِلُ السِّيادةِ على أرضِها؛ ولم يبقَ على اللبنانيين سوى السَّعي الصَّادقِ والتَّعاون في ما بينهم لإرساءِ دولةِ القانون والمؤسَّسات، دولةٌ متماسكةٌ مزدهرة؛ دولةٌ تقوم على الشَّفافيَةِ والمساءلة، مبنيَّةٌ على العدالةِ وتكافُؤ الفُرَصِ أمام جميعِ اللبنانيين على قَدرِ المُساواةِ في الحُقوقِ والواجبات.

لقد أشارَ فخامةُ الرئيس في خِطابِ القسمِ، الذي وجَّهَّه إلى الشَّعب بكُلِّ أطيافِه، إلى المَخاطِرِ الخارجيَّةِ والدَّاخليَّةِ المُحدِقةِ بالوطن، إن لم يُحسِنَ اللبنانيون التَّعامُلَ مع التَّحدياتِ المُتأتيَّةِ عن التَّحولاتِ التي يَشهدُها العالمُ ومنطقةُ الشَّرقِ الأوسَطِ على وجهِ التَّحديد، داعيّاً مختلف الأطراف السياسيَّةِ الفاعلةِ إلى صَحوَةٍ وَطنِيَّةٍ حقيقيَّةٍ تُسهِّلُ عمليَّةَ إعادَةِ بناء الدَّولةِ وفق مُقارباتٍ ديمقراطيَّة عَصرِيَّة، منبِّهاً لمَغبَّةِ الإستِمرارِ بمُقاربَةِ القضايا الوطنيَّةِ المَصيريَّةِ وفقَ المَنهيجيَّاتِ التي كانت سائدةً في إدارةِ شؤون الدَّولة، والقائمَةِ على المُناكفاتٍ السِّياسيَّةِ والمُحاصَصةِ ورِعايَةِ الفساد.

أملى تسارُعُ وتيرةِ المُستجداتِ الدَّوليَّةِ والإقليميَّةِ إنجازَ الإستِحقاقِ الرِّئاسي في لبنان على وَجهِ السُّرعَة، بعد مُرورِ ما يَزيدُ عن سَنتين من الشُّغورِ في سُدَّةِ الرئاسة؛ تَعزَّزَ هذا التَّوجُّهُ لحَراجَةِ الأوضاعِ الدَّاخِليَّةِ التي فاقَمت المَخاطِر المَصيريَّةٍ التي تعصفُ بلبنان وجعلته يَتخبَّط بأزماتِه، جرَّاء تحكُّمِ أحدِ المُكوناتِ السِّياسيَّةِ بالخَيارات السِّياسيَّةِ الدَّاخليَّةِ والخارِجيَّة، وإقحامِه في لُعبَةِ المَحاورِ الإقليميَّةِ التي سَلَخته عن مُحيطِهِ العَربي ووَضعتهُ في عُزلَةٍ دَوليَّة، وتسبَّبَت بانقِسامِ القِوى السِّياسيَّةِ الدَّاخليَّةِ إلى مِحورَين مُتناقِضين مختلفين على هويَّةِ لبنان ودورهِ على السَّاحَتين الدَّوليَّةِ والإقليمِيَّة.

شكَّلَ خِطابُ القسمِ بمَضمونه رافِعَةً مَعنويَّةً للقِوى التَّغييريَّة، وعزَّزَ قناعتَها بضَرورَةِ المُبادرةِ إلى إحداثِ تحوُّلٍ جذريٍّ في المُقارباتِ السِّياسيَّة، وهذا ما شجَّعَ مُعظمَ النُّوابِ على تسمِيَةِ شَخصِيَّةٍ غير تقليديَّةٍ يناطُ بها تَشكيلُ حُكومةِ العهدِ الأولى، ورسا خيارُ مُعظمِهم على القاضي د. نواف سلام «رئيسُ المَحكمَةِ الجِنائيَّةِ الدَّوليَّة»، وهو لبنانيٌّ أصيل مشهودٌ له مَحليًّا ودوليَّا، ويتمتَّعُ بمؤهلاتٍ علميَّةٍ رفيعةِ وبخُبراتٍ قضائيَّةٍ ودبلوماسيَّةٍ واسِعَة؛ وبمجرَّد أن طُرحَ اسمُه لتولي تشكيلِ الحكومةِ حتى بادرَ مُرشحو المُعارضةِ بالإنسحابِ لصالحِهِ واحداً تلو الآخر، الأمرُ الذي جعله يحظى بتأييد 85 نائبًا مقابل 9 نواب لِصالِح الرئيس نجيب ميقاتي، وامتناع 34 نائباً عن التَّسميَة، غالبيَّتُهم من كتلتي (الثنائي الشيعي) أي الوفاء للمقاومة والتَّنميةِ والتَّغيير، وكرَّست النَّتيجةُ فوزاً لافتاً لصالِحِ مرشَّحِ القوى التَّغييريَّة.

يُستشفُّ من نتائجُ الانتخاباتِ الرئاسيَّة وارتفاعِ نسبةِ الأصواتِ التي حظي بها المرشَّحُ التغييري لتولي رئاسةِ الحكومة أن ثمَّةَ تحوُّلاً جوهريًّا في التَّوجهات السِّياسيَّة على السَّاحة اللبنانيَّة، يوحي بأن لبنان أمامَ فَرصَةٍ حقيقيَّةٍ للنُّهوضِ من كبوتِه، وتَخطي الأزَماتِ الحادَّةِ التي ألمَّت به. وهذا يُملي على مُختلِفِ المُكوناتِ السِّياسيَّةِ اللبنانيَّةِ التَّرفُّعَ عن الانتِماءاتِ الفئويَّةِ والأنانيَّاتِ الشَّخصيَّة، ونبذِ كُلِّ الخِلافاتِ والوقوفِ خلفَ فخامَةِ الرئيسِ في مَسعاه الإصلاحي، وتَبنّي توجُّهاتِهِ المُستقبَليَّةِ التي عبَّرَ عنها في خطاب القسم، واعتمادِها كخشبةِ خلاصٍ تنقذُ الدَّولةِ من مآزِقِها وتمكِّنُها من مُواجَهَةِ التَّحدِّياتِ المُستقبليَّةِ بدءاً بإعمارِ ما دمَّرته الحربُ الأخيرة وتضعُ لبنان على سِكَّةِ النُّهوض.

الصَّدمةُ التَّغييريَّة أصابت جميع اللبنانيين، إلَّا أنها جاءت ثقيلةً على الثُّنائي، بحيث استشعرَ خطراً على مصالِحِه وتوجُّهاته، واعتبرَ أنه خُذِلَ في السَّاعاتِ الأخيرة من أقربِ المُقرَّبين إليه والدَّائرين في فلكه، وظن كوادره أنهم وقعوا في مَكيدةٍ حيكت ضُدَّهم أدَّت إلى قلب نتائجِ المُشاوراتِ رأساً على عقب، وظَنوا أن ثمَّةَ من يتربَّص بهم لإقصائهم عن السُّلطةِ التَّنفيذيَّة، وتهميشِ دورهم بعد أن كانوا يتَحكمون بمسار الدَّولةِ منذ ثلاثةِ عقودٍ من الزَّمن، لذا قررَّت كتلتا الثُّنائي الامتناع عن تَسمِيَةِ أيِّ شَخصٍّ لتَولي تَشكيلِ الحُكومَة.
لم يكتفِ الثَّنائي المنوّه عنه بالإنكفاء عن مواكبَةِ رَكبِ التَّغييرِ بل سعى إلى تَعكير عَمليَّةِ الإستشاراتِ المُلزمَة، مُحاولًا تأجيلَ موعد لقاء كتلتيه النيابيتين بفَخامةِ الرئيس إلى اليوم التالي، الأمرُ الذي قوبلَ بالرَّفض، فاستعاض صقوره عن ذلك بمناورةٍ تظهرُهم بمَظهرِ المُستهدَف، ربما تُسهِّلُ عليهم التنصُّلَ مُستقبلاً من مسؤوليَّةِ إقحامِ لبنان بأتون حرب مُدمِّرة؛ وهذا ما استُخلِصَ من التَّصريح المُقتضبِ الذي أدلى به رئيس كتلة الوفاء للمقاومة فور خروجِه من المُشاورات، مُعرباً عن استياءِ الثُّنائي مِما حَصل، واصفاً الأمرَ بكيدٍ سياسي ومُحاولةِ إقصاء وإلغاء للطائفةِ التي يحتكرُ تمثيلها، ملمِّحاً إلى عدمِ مُشاركةِ الثُّنائي في الحُكومةِ العتيدة وامتناعه عن منحِها الثِّقة، سيجعلَها فاقدةً للميثاقيَّة في التَّكليف والتأليف، ملقياً على العهدِ والحكومه مَسؤوليَّةِ إخراجِ المُحتلِّ وإعادَةِ الأسرى وإعادَةِ الإعمارِ والتَّنفيذِ الصحيح للقرار 1701، وختم مُداخلتَه مُحذِّراً من الإخلال بالتَّوافُقِ الوطني والوحدَةِ الوطنيَّةِ والعيش المُشترك؛ وعدمِ الرِّضى هذا تُرجمَ أيضا بعبارةِ «ما هيك اتَّفقنا» قالها دولة الرئيس بري لفَخامَةِ الرئيس.

يبدو أن الثنائي لم يزل مُصرًّا على تغليب هويَّتِه الشِّيعيَّةِ على هويَّتِه الوطنيَّة، ويُعزى ذلك لكونِه لم يُحسن قراءة التَّحولاتِ على السَّاحتين الإقليميَّةِ واللبنانيَّة، ولم يُجرِ تقييمًا موضوعِيًّا ومُتَجرِّداً لما آلت إليه أوضاعُ مِحورِ المُمانعَةِ ولا ما أسفرت عنه الحربُ مع العدو الإسرائيلي ولا لانعكاساتِها السِّياسيَّة إقليميًّا ومَحلِّيًّا، وهذا ما يدفعُه للمُضِيِّ قُدُماً بلغةِ التَّهديدِ والوعيدِ والتَّعنُّت والإصرارِ على وجوبِ إبقاء الوَضعِ السِّياسي والعَسكري على ما كان عليه قبلَ الحرب، مُتغافلاً عما لحقَ بلبنان نتيجةَ التَّعنُّتِ بالخياراتِ والتَّفرُّدِ بقراراتٍ مصيريَّةٍ غير مَحسوبَةِ النَّتائج، والتي كلَّفت اللبنانيين وبخاصَّةٍ بيئتِه الحاضِنة أثماناً باهظَةً في الأرواحِ والمُمتلكات.

إن تردُّدَ الثنائي في انتخابِ العماد جوزاف عون، ورفضه المُطلق لتسميَةِ الدكتور نواف سلام غير مُبرَّر، وأن إصراره على المُضيِّ قدُماً بخيارات تَعطيليَّة هو انتحارٌ للحزب ونحرٌ للبنان، وخاصَّةً بعد أن انحرَفت المقاومةُ «التي حرَّرت لبنان عام 2000» عن مَسارِها الوطني «الذي كان مُجمعاً عليه» وتاهَت في غياهبِ المَحاور الإقليميَّة، وأنهت دورَها كمُقاومَةٍ عام 2024 بإقحامِ لبنان بحربٍ لم نحصد منها سوى خسائرَ فادِحَةٍ في الأرواح المُمتلكات، والتي دفعت بمعظمِ مُثقفي الطَّائفةِ الشيعيَّةِ لإبداءِ رفضِهم لتَوجُّهاتِ الثنائي.

إن المسؤوليَّةَ الوَطنيَّةَ تُملي على أصحابِ القرارِ في الثُّنائي وبالتَّحديد في حزب لله، اتخاذ قرار مَصيري شجاع يقضي بالتَّخلي طوعاً عن السِّلاحِ ووضعِ الأسلحةِ التي لم تطلها الغاراتُ الإسرائيليَّةُ بتَصرُّف الجيش اللبناني لتَعزيزِ قُدراته الدِّفاعيَّة؛ والتَّحولِ كُلِّيًّا إلى حزبٍ سياسي مدني كباقيِ الأحزابِ اللبنانيَّة التي سبق لها وسلَّمت أسلِحتَها، والإحتكامِ إلى أصولِ الممارسةِ الدِّيمقراطيَّةِ في المُقارباتِ السِّياسيَّة، والتي توفِّرُ له إمكانيَّة للمُشاركَةِ بفاعلة في إدارةِ شؤون الدَّولة كسائر الأحزابِ الوطنِيَّة.

ولتكنُ الخطوةُ الديمقراطيَّةُ الأولى للثُّنائي بتسهيلِ عمليَّةِ تَشكيلِ الحُكومَة، والعملِ على أن تكون حكومةً وطنيَّةً جامِعَة؛ حكومةٌ مُتجانِسةٌ متضامنَةٌ منتِجةٌ وفاعِلة؛ حكومةٌ قادرةٌ على استِشرافِ تطلُّعاتِ اللبنانيين والوقوفِ على هُمومِهِم ومُعاناتِهِم المَعيشيَّة؛ حكومةٌ قادرةٌ على بسطِ سُلطَةِ الدَّولَةِ على كامِلِ التُّرابِ اللبناني، وعلى التَّصدي لمُختلِفِ الظَّواهِرِ الإجراميَّةِ المُنظَّمَةِ وغيرِ المُنظَّمَة، وفي طليعتِها الأنشِطَةُ غير المَشروعَةِ ذاتِ العلاقةِ بالمُخدرات، حكومةٌ إصلاحيَّةٌ نهضويَّةٌ قادرةٌ على إطلاقِ عمليَّةِ إصلاحٍ شاملةٍ ومُتكاملة، تطالُ مُختلِفَ المَجالاتِ السِّياسيَّةِ والإداريَّةِ والقضائيَّةِ والاقتصاديَّةِ والماليَّةِ والنَّقديَّةِ والتَّربويَّةِ الخ… وعلى نحوٍ يضمنُ الإستقرارَ السِّياسي والأمني والاجتماعي، ويكفلُ استدامَةَ العملِ في مُختلفِ إداراتِ الدَّولةِ ومؤسَّساتِها وأجهزتِها وهيئاتِها، وتفعيلِ القِطاعِ العام بإعادةِ هيكلتِهِ وتأهيلِ العاملين فيه، والعَملِ على رَفعِ مُستوى جَودةِ الخدماتِ التي يقدِّمونَها للمُواطنين من دون إرهاقٍ أو ابتِزازٍ أو إذلال، وبما يكفلُ ترشيدَ استِغلالِ الطَّاقاتِ البَشريَّةِ والثَّرواتِ الطَّبيعيَّةِ والحِفاظِ على البيئة.

إن الثُّنائي مدعوٌ للتَّحوُّلِ من ثنائيَّةٍ مذهبيَّةٍ إلى تعدُّديَّةٍ وطنيَّة، وملاقاةِ شُركائه في الوطن الذين يدعونه للإنضمامِ إليهم في مسيرةِ التَّغيير التي بدأت ملامحُها تلوحُ في الأفق، والتَّخلي عن تحفُّظاته على أسماء لا مآخذَ عليها سوى أنها من خارج المنظومة التَّقليديَّة، وإبداءِ حسن النِّيَّةِ بمُساهمتهِ في تَشكيلِ حُكومَةٍ حِياديَّةٍ مُتجانسة؛ حُكومَةُ تِكنقراط، تكون قادرةً على القِيام بأعباءِ السُّلطةِ التَّنفيذيَّةِ خلال هذه المرحلة الحرجة المليئة بالتَّحدِّيات، والحرصُ على أن يكون المِعيارُ في اختيارِ وزرائها مبنيٌّ على الكفاءَةِ والنَّزاهَةِ ومُراعاةِ قواعِدِ الاختِصاصِ البعد عن المَحسوبيَّةِ والولاءِ لأصحابِ النُّفوذ؛ وزراءُ مَشهودٌ لهم بمَواقِفِهم الوطنيَّةِ الجريئة، ومناقبيَّاتِهِم الأخلاقيَّةِ والمِهنِيَّة، وتَطلعاتِهِم التَّغييريَّة، وبنزاهتِهِم التي لا غُبارَ عليها، وزراءَ يُحسِنونَ اتِّخاذَ القرار ولا يغضُّون الطَّرفِ عن المُرتكبينَ ولا يُسايرون المُتنفِّذين أو يهادنون الخارجينَ على القانون.

ونختم بالقول إن الميثاقيَّةَ الطوائفيَّةَ لا تكون بتمثيل أحزابٍ بعينها بل بإشراك أكفاءَ من مختلفِ المُكونات الطَّائفيَّة، وليس من فائدةٍ في الانكفاء عن المشاركة، ذلك أن قطارَ النُّهوضِ بالدَّولةِ يتَّسِعُ لجميع المُكوناتِ الوطنيَّةِ دون استثناء.