IMLebanon

“الطوفان” يجرف “الأذرع”.. وأوراق إيران تمزّقت

كتب جوزيف حبيب في “نداء الوطن”:

لم تتعلّم إيران وأذرعها لا من عِبر التاريخ ولا من دروس وخلاصات في استراتيجيات الحرب وتكتيكاتها تعود إلى زمن الجنرال والفيلسوف الصيني صن تزو قبل أكثر من 2500 عام. لا عجب، فالأنظمة الثيوقراطية والتنظيمات العقائدية دائماً ما تجدها عالقة في «عنق زجاجة» إيديولوجياتها الجامدة. قد تكون حركة «حماس» قد نجحت تكتيكياً في خداع عدوّتها إسرائيل للتحضير لعملية «طوفان الأقصى» وشن هجومها المباغت على غلاف غزة في 7 تشرين الأول 2023، إلّا أنها فشلت فشلاً ذريعاً في الحسابات الاستراتيجية ولم تحسن تقدير كلفة «غارتها الخاطفة» وتداعياتها، أو لم تكترث حتى لذلك، وتالياً رسبت في امتحان تقويم قدرات الدولة العبرية وردود فعلها المحتملة في ظلّ نظام دولي تهيمن عليه الولايات المتحدة. أرادت الحركة الإسلامية تغيير مسار التحوّلات الإقليمية، فكان «الطوفان» الذي جرف الأذرع الإيرانية وبَترَ «الهلال الشيعي» وغيّر وجه المنطقة.

الحسابات الخاطئة ليست حكراً على «حماس»، فلم يتأخر «حزب الله» في تلبية نداء «وحدة الساحات» وفتح «جبهة إسناد» من جنوب لبنان دعماً لغزة في اليوم التالي لـ «غزوة حماس». وعلى الرغم من قوة «الحزب» التي تتفوق على قوة الحركة، إلّا أنه وقع فريسة للتكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية التي تصيّدت كوادره تباعاً ونفذت «عملية البيجر» واغتالت غالبية قياداته العسكرية والأمنية، وعلى رأسهم الأمين العام الذي كان «ضابط ايقاع محور المُمانعة»، فأُنهِك «درّة تاج» الثورة الإسلامية و»أُقعِد» وأُخرِج من «حرب الإسناد» القاصمة بموافقته مرغماً على اتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني المنصرم.

كما تراجعت فعالية الأذرع الإيرانية في العراق بفِعل الضربات الأميركية القاسية والتهديدات الغربية والإسرائيلية التي تلقتها بغداد للجم الميليشيات الموالية لطهران، المنقسمة أصلاً في ما بينها. وتعمل السلطات العراقية على إقناع الفصائل الولائية بالتخلّي عن سلاحها أو الانضمام إلى القوى الشرعية. بالتوازي، تقلّصت قدرة الحوثيين على استهداف السفن وتعطيل الملاحة البحرية، حيث تعرّضوا لسلسلة غارات أميركية – بريطانية وإسرائيلية مكثفة، «كسرت شوكتهم» وحجّمتهم وحدّت من فعاليّتهم، رغم مواظبتهم على إطلاق الصواريخ والطائرات المسيّرة في اتجاه إسرائيل، التي غالباً ما تفلح في تحييدها بمساعدة حلفائها. ويؤكد خبراء أن القيادات الحوثية وبنية «أنصار الله» التحتية، المدنية والعسكرية، غدت ضمن «بنك أهداف» إسرائيل التي تعتزم مضاعفة وتيرة هجماتها على الانقلابيين في اليمن.

تبقى المفاجأة التي قضّت مضاجع نظام الملالي في طهران وقصّت «الشريان الحيوي» الذي يربط طهران ببيروت، هي السقوط المدوّي لنظام الأسد فجر الثامن من كانون الأول 2024 بعد إطلاق عملية «ردع العدوان» قبل أيّام معدودة من انهياره، وتحديداً في 27 تشرين الثاني، بقيادة «هيئة تحرير الشام» الإسلامية وبمباركة تركيا ورعايتها. وما كان لـ «ردع العدوان» من فرصة للنصر السريع لولا «طوفان الأقصى» الذي انقلب سحره على الساحر وقطّع أوصال «الأخطبوط الإيراني»، فيما يرى مراقبون أن «الفضل الأساسي» في التحوّلات الدراماتيكية في المنطقة، ولو عن غير قصد، يعود للعقل المدبّر لـ «الطوفان» قائد «حماس» يحيى السنوار، الذي دفع حياته ثمناً لـ «مغامرته الانتحارية».

كان لتهديد الرئيس الأميركي المُنتخب دونالد ترامب بفتح أبواب الجحيم على «حماس» إذا لم تطلق سراح الرهائن الإسرائيليين قبل توليته رئيساً، قوّة الدفع الرئيسية التي أفضت إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، بعد شهور من المفاوضات المكوكية والجهود المضنية، التي كانت تفشل مع المماطلات المتبادلة ووضع الشروط والشروط المضادة. البيئة الأمنية والوضع الجيوسياسي تبدّلا جذرياً في الشرق الأوسط، خصوصاً مع تقهقر «إمبراطورية فيلق القدس» وخروجها ذليلة بشكل شبه كامل من «المعادلة الإقليمية»، بعكس كلّ ادّعاءات «الانتصار» والترّهات المشابهة، ما جعل طهران في «عين العاصفة» على «رقعة الشطرنج»، وقرّب نظام الملالي أكثر من وضعيّة «كش ملك» مع انكشاف الجمهورية الإسلامية المُنهكة اقتصادياً، عسكرياً، بعد تهاوي خطوط دفاعاتها الأمامية مع إسرائيل.

تحاول إيران ترميم صورتها التي تصدّعت بعد هجمات محدودة متبادلة مع الدولة العبرية، كشفت عورات الدفاعات الإيرانية وأظهرت الهوّة السحيقة في القوّة العسكرية بين الطرفين، فتطلق طهران مناورات حربية يائسة حيناً وتكشف عن عتاد عسكري لن يُسعفها حين تدق ساعة المواجهة الحاسمة أحياناً أخرى. إيران استحالت «رجل الشرق الأوسط المريض»، كما ذكرت في مقال بهذا العنوان أوائل كانون الأوّل الماضي. وهذا المريض قابع في «العناية المركّزة» وحالته ميؤوس منها، الأمر الذي فرض عليه الجلوس مجدّداً مع «الترويكا الأوروبّية» حول «الطاولة النووية» في جنيف بداية الأسبوع الحالي، لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه وتهيئة «أجواء ايجابية» قبل دخول ترامب البيت الأبيض الإثنين المقبل.

صحيح أن عهد ترامب لم ينطلق رسمياً بعد، بيد أن تأثير كونه الرئيس الأميركي القادم واضح للعيان. اعتادت طهران «النجاة» من أزماتها باعتماد نهج «حياكة السجّاد». لذا، بدأت تبعث «رسائل دبلوماسية» لترامب في شأن حُسن نواياها النووية، نافية تخطيطها لاغتياله. لكن تقية طهران وألاعيبها أصبحت مكشوفة ولن تمرّ لا على الأوروبّيين ولا على إدارة ترامب، التي ستنتهج مقاربة حازمة مع إيران، بينما يتعمّد الرئيس الأميركي المقبل تأكيد تصميمه على توسيع «اتفاقات أبراهام»، وهي القضية التي تتصدّر سلّم أولويّاته في المنطقة.

ستعمل إدارة ترامب على ترتيبات جديدة في الشرق الأوسط، في وقت تبقى عينها شاخصة نحو الصين ومنطقة المحيطَين الهندي والهادئ. طهران ستفاوض لتمرير الوقت، الذي لا يصبّ في مصلحتها، بالحدّ الأدنى من الخسائر، وهي صارت على يقين أن «أوراق» قوّتها تمزّقت أو احترقت، وليس لها سوى القليل من هامش المناورة الذي ضاق كثيراً. لقد أضحت الجمهورية الإسلامية «أوهن من بيت العنكبوت»، بعدما حَطّمت أمواج «الطوفان» العاتية أذرعها وسحقت هيبتها وباتت تهدّد وجودها.