IMLebanon

لغة جسد الشرع تكشف المستور: الانفتاح الحذر

كتب وليد فريجي في “نداء الوطن”:

شكّلت عودة القائد العام لإدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع، حدثاً استثنائياً في سوريا والعالم. من شاب هادئ خجول، مهذّب ورصين، انطوائيّ حزين، إلى شخصية متطرّفة ومتشدّدة داخل صفوف “تنظيم القاعدة” ومؤسس “جبهة النصرة”، من بعدها “هيئة تحرير الشام” وصولاً إلى معركة “ردع العدوان” التي أطاحت بنظام بشار الأسد.

مسيرة محفوفة بالغموض، محطات مفصلية، التحف التطرّف الإسلامي، ليعود ويستأنس التحوّل إلى نموذج مدني، يعانق الانفتاح، ويجاهر باحترام التعدّدية والأقلية.

تحوُّل يستحق الدراسة تحت مجهر العلم، لتبيان واستطلاع، بحسب لغة الجسد والعلم السياسي الاجتماعي، حقيقة هذا التحوّل السياسي والشكلي والفكري.

مراحل التحوّل

تشبّع أحمد الشرع منذ نعومة أظفاره أفكاراً نضالية مستقاة من الانتفاضة الفلسطينية الثانية وقومية عربية وفكراً سلافياً. يسترق السمع للنقاشات المنزلية خلف جدران منزل والده حسين الشرع الذي يصفه البعض بالمناضل بعد سلسلة اعتقالات له في الأردن وسوريا حتى انتهى به المطاف باحثاً اقتصادياً في المملكة العربية السعودية وفي جعبته 19 كتاباً.

أحمد الشرع أو (أبو محمد الجولاني)، تتلمذ داخل صفوف كلية الإعلام في جامعة دمشق، اتّسم بالتزام أخلاقي ونفحة دينية انطلاقاً من اهتمامه بقضايا العرب المسلمين.

شكّل دخول القوات الأميركية إلى العراق في العام 2003 نقطة عبور لأبي محمد الجولاني من مناضل إلى مجاهد في صفوف تنظيم “قاعدة الجهاد” في بلاد الرافدين بقيادة أبي مصعب الزرقاوي، وبعد مقتل الأخير، عاد ليستقرّ في لبنان لدعم تنظيم “جند الشام” لوجستيّاً عام 2006.

عاد إلى العراق بعد اعتقال المخابرات السورية تنظيم “جند الشام”. تعرّض للاعتقال على يد الجيش الأميركي وأطلق سراحه عام 2008، استمرّ في القتال إلى جانب “أبي بكر البغدادي” وعين رئيساً للعمليات في محافظة نينوى العراقية.

حفّزته الثورة السورية عام 2011، للعودة، شكّل “جبهة النصرة لأهل الشام” مع ستة من رفاقه عام 2012، نظّم صفوفها وفق حوكمة مدنية، حوّلها إلى فصيل سوري ضمن صفوف الثورة السورية.

أنهى ارتباطه بـ “تنظيم القاعدة” والجماعات الجهادية على أثر خلاف فكري ومنهجي حادّ مع “أبي بكر البغدادي”، زعيم تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، فتوجّه إلى إدلب ليشكّل “هيئة تحرير الشام” عام 2017.

حوّلها إلى فصيل سوري منضبط السلوك ضمن صفوف الثورة السورية، بدأت تتّضح معالم التحوّل والتغيير الفكري والمنهجي للهيئة، من خلال استحداث أسلحة ومشاريع تنموية مثل الحكومة الإلكترونية.

أطاحت معركة “ردع العدوان” بقيادة الشرع بنظام بشار الأسد وحلفائه خلال عشرة أيام، قدّم نموذجاً مدنيّاً جعله محط أنظار المجتمع الدولي.

تحوّل جذريّ

صورة جديدة للشرع في الشكل ومضمون الخطاب السياسي. في الشكل تحوّل جذريّ، صورة مختلفة أنيقة مزيّنة بربطة عنق. في المضمون خطاب مدني سياسي ينادي بالديمقراطية والتعدّدية وحقوق الأقليات.

هذا التحوّل الجذريّ الفكريّ والسياسيّ يشكّل نموذجاً استثنائياً لدراسته من النواحي كافة.

بداية، كان لا بدّ من العودة لاستعراض نماذج مشابهة للقادة الذين أعادوا حساباتهم ومراجعاتهم وعبروا من الفكري الجهاديّ التطرفي إلى الفكر المعتدل. يقول الباحث في تاريخ لبنان السياسي الدكتور إيلي الياس: “لم ينجح الإسلام السياسي في الوصول إلى السلطة إلّا في حالتين: الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979 وسيطرة حركة طالبان على أفغانستان، وما تبقّى مجرّد محاولات باءت بالفشل”. يضيف الياس “بعض المحللين وضعوا سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والحزب الحاكم ضمن هذا السياق. كما شهدت مصر بعد الربيع العربي، محاولة للإخوان المسلمين بالوصول إلى السلطة من خلال الرئيس محمد مرسي لكنها باءت بالفشل الذريع”. ويختم الياس “التاريخ الحديث لم يشهد على تحوّل شخصيات أو قادة من تيارات إسلامية متشدّدة إلى تيارات أكثر اعتدالاً. أما في ما يتعلّق بالشرع فمن المبكر الحكم على تحوّله أم لا”.

لغة الجسد: انفتاح وارتياح حذر

لغة الجسد وجه آخر لتحليل مكنونات الشخصية والفكر، تكشف ما يحاول الزعماء والقادة إخفاءه أمام الكاميرات والأضواء.

الأستاذ الجامعي والمدرّب على مهارات التواصل والخبير في لغة الجسد نضال نصرالله، وفي تحليله للقاء الشرع مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي يقول: “بالنسبة إلى حركة الفم خلال الكلام، نلاحظ اتجاه الشفاه يميناً، وهذا يعني نوعاً من الازدراء وعدم الاقتناع بما يقوله.

إمساكه بالميكروفون أكثر من مرة لتصويب اتجاهه على الرغم من ثباته، يعني محاولة للتخفيف من حدّة توتره. إمساك الشرع بالمنصة الخشبية التي يقف خلفها بطريقة مائلة وغير مستقيمة، نظراته التائهة، تعكس في تفسير لغة الجسد ضغطاً نفسياً، أما تشبثه بالمنصة فيعني الاختباء خلف متراس.

يظهر الشرع وهو يبتلع لعابه، مخرجاً لسانه ليبلّل شفتيه، مستعيداً وقوفه بطريقة مستقيمة، في دلالة على تخلّصه من الضغط النفسي الذي سرعان ما يعود إليه في معرض إجابته عن أسئلة الصحافيين، في ما خص العوائق الحدودية مع لبنان، يظهر ذلك من خلال إقفال يديه وهي حركة تعني عدم الجهوزية.

ابتسامته غير حقيقية وإغماض عينيه يعني عدم اقتناعه بما يقوله عن العوائق الحدودية بين البلدين. وفي سياق حديث عن رئيس الجمهورية جوزاف عون رفع إصبع الإبهام وهذا يعني أنه لا يعرفه”.

يضيف نصرالله “إن جمل الشرع قصيرة، ونبرة صوته وطريقة حديثه نمطية وغير متمكن من أدواته للظهور أمام الكاميرا”.

ويتابع “في خلال استقبال الشرع لميقاتي وإلقاء التحية على بعضهما البعض، تظهر يد الشرع خلف ظهر الأخير في دلالة ترحيبية ورقابية في الوقت ذاته وكأنه يقول له “أهلاً بك… هنا دمشق… هنا قصر الشعب” سرعان ما يعود إلى الخلف في دلالة على وضع مسافة بينهما، معيداً يده اليسرى إلى الخلف وهذا يعني أنه حذر”.

في قراءة للغة جسد الشرع خلال استضافته عبر قناة العربية يلفت نصرالله إلى أنه بدأ حديثه بصوت دافئ فيه الكثير من المشاعر والهدوء، مستعيناً بمأساة الشعب السوري سبباً لخلاص سوريا، للفت انتباه المشاهد.

ينظر إلى يمينه على الدوام في دلالة على محاكاة الذات. في المختصر لغة جسده منفتحة، يبدو أكثر ارتياحاً في اللقاءات الفردية فيما يبدو أكثر توتراً من اللقاءات الجماعية، وقوة حضوره جيدة وستزداد مع الوقت.

قدرة الصورة على الإقناع

أهمية الصورة وقدرتها على الإقناع ومدى انسحابها على المضمون، عناوين فنّدها الأستاذ في علوم الإعلام والاتصال في الجامعة اللبنانية روي الجريجيري.

يقول: “كان لانتشار التلفزيون في القرن الماضي ثم لوسائل الإعلام الحديثة في القرن الحالي دور أساسي في إعلاء شأن الصورة (ethos) في بناء الخطاب السياسي، مع تراجع المكوّنين الآخرين الـlogos أي الجانب العقلاني، والـpathos أي الجانب العاطفي”.

أضاف “الصورة اليوم سابقة للخطاب وللبرنامج حتى، قد تتفاعل مع الجانب العاطفي لإثارة أنواع كثيرة من المشاعر الإيجابية (كالأمل والإعجاب) أو السلبية (كرفض الخصم).

الصورة هنا لا تقتصر على المظهر الخارجي، بل مفهوم متعدد الأبعاد يعكس بناءً استراتيجياً وشاملاً للهوية، بل تشمل عناصر رمزية وقيمية كالمصداقية (الوفاء بالوعود وتحقيق النتائج الملموسة)، السمات الشخصية، القيم والمبادئ المعلنة، وغيرها من العناصر التي تُسهم في تشكيل الانطباع العام.

يمكن للبعض أن يستغل وسائل الإعلام لبناء صورة منفصلة عن الواقع، ما يؤدي إلى خلق فجوة بين التصوّرات والأفعال. لكن السيطرة على الصورة أصبحت اليوم أكثر تعقيداً مع تطور وسائل الإعلام والاتصال، حيث تتيح هذه الوسائل الكشف عن الصور غير المؤاتية أو التي تتعارض مع تلك المسوّقة من قبل أي شخصية. هذا التطوّر أدّى إلى إضعاف القدرة على التحكم الكامل بالصورة العامة”.

يتابع الجريجيري “في حالة رئيس الإدارة السورية أحمد الشرع، نحن أمام عملية إعادة بناء علامة سياسية (rebranding politique) تعتمد أساساً على الصورة أو الـethos . هذه العملية أربكت نوعاً ما وسائل الإعلام والجهات المعنية بالملف.

في ظل الاحتفاء بالتغيير وبالصدمة الإيجابية التي أحدثها سقوط النظام، ومع إعادة رسم الصورة التي أرادها أحمد الشرع والتي تضمّنت تعديلات في اللباس والسلوك وحتى الاسم المعتمد، صياغة سردية جديدة لماضيه ونواياه، تحسين كيفية التعامل مع وسائل الإعلام المحلية والخارجية، تبني نبرة معتدلة وهادئة في الكلام، الاحتكام إلى مُثل مستجدة كالحوار، التفاهم، والمصالحة الوطنية، وغيرها، نجد أن حتى أكثر الجهات تشكيكاً تحدثت عن ضرورة انتظار الأفعال قبل الحكم على التجربة. وقد تجنّبت هذه الجهات الانتقاد المباشر للخلفية السياسية الدينية المتشددة للحكم الجديد ولتاريخه الثقيل”.

يختم الجريجيري “نحن أمام دينامية تلعب فيها الصورة والاستراتيجية دوراً رئيسياً في مرحلة أولى. لكن في مرحلة لاحقة، سيكون الاختبار الحقيقي هو السياسات الفعلية، ما يجعل الصورة وحدها غير كافية (Justin Trudeau نموذجاً) في حال لم يصاحبها أيّ تحوّل حقيقي في العمق.

 

سيكون أحمد الشرع (والحكم الجديد) موضع امتحان دائم في كل خطوة يقوم بها تقريباً أمام الجهات المعنية بالشأن السوري. هذا الوضع سيتطلب جهوداً مستمرة لعدم تقويض الصورة المقدّمة، وبالتالي خسارة التأييد والدعم في الخارج كما في الداخل.

سيكون هذا الامتحان صعباً ومزدوجاً، ومصحوباً بصراع داخل الهيئة نفسها بين توجّهات مختلفة قد تعارض الصورة الجديدة. لذا، فإن تقويض الصورة في هذه الحالة سيكون أمراً سهلاً جداً نظراً إلى العوامل الموضوعية المرتبطة بالشرع وبالهيئة والتي ذكرتها سابقاً”.