كتب زكريا الغول في “اللواء”:
بعد فترة طويلة من الفراغ الرئاسي والانقسامات السياسية الحادة، تمكن لبنان من انتخاب رئيس جديد للجمهورية، مما أثار آمالاً جديدة في تحقيق الاستقرار واستعادة الثقة المحلية والدولية بمؤسسات الدولة. خاصة بعد خطاب القسم الذي ألقاه الرئيس جوزاف عون بعد انتخابه، والأثر الإيجابي الذي تركه بين أوساط الشعب اللبناني والمجتمعين الدولي والعربي، ومع ذلك، فإن انتخاب الرئيس، على الرغم من أهميته، لا يعني أن لبنان قد تخطى أزماته. بل إن التحديات التي تواجهه ما زالت كبيرة ومعقدة، وتشمل أبعاداً سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية.
إن الفراغ الرئاسي الذي عانى منه لبنان لأكثر من عام كان انعكاساً واضحاً للانقسامات السياسية والطائفية بين مختلف القوى اللبنانية. انتخاب رئيس جديد لا يعني أن هذه الانقسامات قد زالت، بل يضع على عاتق الرئيس عون مهمة صعبة تتمثل في بناء توافق داخلي بين الأطراف المختلفة.
لبنان يعاني من نظام سياسي يقوم على المحاصصة الطائفية، مما يجعل اتخاذ القرارات الكبرى أمراً معقداً. يحتاج الرئيس جوزاف عون إلى العمل على تعزيز الحوار بين القوى السياسية المختلفة، وإعادة بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة. كما يجب عليه أن يعمل على تعزيز دور المؤسسات الدستورية، وخاصة البرلمان والحكومة، لضمان اتخاذ قرارات فعالة بعيداً عن التعطيل السياسي الذي أصبح سمة رئيسية في السنوات الأخيرة.
وهنا لا يمكن الحديث عن التحديات التي تواجه لبنان دون التطرق إلى أزمته الاقتصادية غير المسبوقة. لبنان يعاني من انهيار اقتصادي شامل منذ عام 2019، حيث فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها، وانهارت القطاعات الحيوية مثل المصارف والطاقة والبنية التحتية.
الرئيس الجديد يواجه مهمة شاقة في محاولة إنقاذ الاقتصاد اللبناني. هذا يتطلب إصلاحات جذرية تشمل إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتحقيق الشفافية في إدارة المال العام، والتفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على حزمة إنقاذ مالي.
لكن تنفيذ هذه الإصلاحات ليس بالأمر السهل، حيث يواجه مقاومة من بعض الأطراف السياسية والمصالح الاقتصادية. بالإضافة إلى ذلك، فإن معاناة الشعب اللبناني اليومية من ارتفاع معدلات الفقر والبطالة تجعل من الصعب تمرير إصلاحات قد تكون مؤلمة على المدى القصير.
إن الأزمات المتتالية التي مرَّ بها لبنان أدّت إلى تآكل الثقة بين الشعب اللبناني ومؤسسات الدولة. فقد أدى الفساد وسوء الإدارة إلى شعور واسع باليأس والإحباط بين اللبنانيين، خاصة بين الشباب الذين يبحثون عن فرص أفضل خارج البلاد.
الرئيس الجديد يواجه تحدياً كبيراً في إعادة بناء هذه الثقة. يحتاج إلى تبني سياسات تعزز الشفافية والمساءلة، والعمل على مكافحة الفساد بشكل جدي. كما يجب عليه أن يركز على تحسين الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والماء والتعليم والصحة، التي تدهورت بشكل كبير في السنوات الأخيرة.
إعادة بناء الثقة تتطلب أيضاً إشراك المجتمع المدني في عملية صنع القرار، وضمان أن تكون سياسات الدولة مبنية على احتياجات الشعب وليس على مصالح النخب السياسية.
يقع لبنان في منطقة مضطربة جغرافياً وسياسياً، مما يجعله عرضة للتأثيرات الخارجية. التدخلات الإقليمية في الشأن اللبناني، والصراعات الداخلية بين القوى المختلفة، تجعل من الحفاظ على الاستقرار الأمني تحدياً كبيراً.
الرئيس عون بحاجة إلى العمل على تعزيز سيادة الدولة اللبنانية وضمان عدم استخدام لبنان كساحة لتصفية الحسابات الإقليمية. هذا يتطلب تقوية الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية، وضمان استقلاليتها عن التأثيرات السياسية.
كما يجب على الرئيس الجديد العمل على نزع فتيل التوترات الطائفية والمذهبية، التي يمكن أن تؤدي إلى تفجر الأوضاع في أي لحظة. تعزيز الوحدة الوطنية والحوار بين مختلف الطوائف والمكونات اللبنانية هو المفتاح للحفاظ على الاستقرار الداخلي.
لقد فَقدَ لبنان الكثير من الدعم الدولي والعربي بسبب أزماته الداخلية وعجزه عن اتخاذ قرارات سياسية واضحة. الرئيس الجديد يواجه تحدياً في إعادة بناء علاقات لبنان مع المجتمع الدولي والدول العربية، خاصة مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج التي كانت تاريخياً من أكبر داعمي لبنان.
استعادة الثقة الدولية تتطلب من لبنان تبني سياسات مستقلة ومتوازنة، والالتزام بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة من قبل المجتمع الدولي. كما يجب على الرئيس الجديد أن يعمل على تعزيز علاقات لبنان مع الدول المانحة، لضمان الحصول على الدعم اللازم لإعادة بناء الاقتصاد والبنية التحتية.
إلى جانب الأزمات السياسية والاقتصادية، يواجه لبنان تحديات بيئية خطيرة تشمل التلوث، وإدارة النفايات، وشح الموارد المائية. هذه القضايا تؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين وتتطلب حلولاً مستدامة.
الرئيس الجديد يحتاج إلى تبني سياسات بيئية فعالة، تشمل تعزيز استخدام الطاقة المتجددة، وتحسين إدارة الموارد الطبيعية، ومكافحة التلوث. التعاون مع المنظمات الدولية في هذا المجال يمكن أن يساعد لبنان على مواجهة هذه التحديات.
إن انتخاب رئيس جديد للجمهورية يمثل نقطة تحول في تاريخ لبنان، لكنه ليس حلاً سحرياً لجميع الأزمات. التحديات التي تنتظر لبنان كبيرة ومعقدة، وتتطلب من القيادة الجديدة تبني سياسات جريئة وفعّالة لمعالجتها.
الرئيس عون يحمل على عاتقه مسؤولية إعادة بناء الدولة، وتعزيز الوحدة الوطنية، واستعادة ثقة الشعب والمجتمع الدولي. هذه المهمة ليست سهلة، لكنها ليست مستحيلة إذا ما تضافرت الجهود بين القيادة السياسية والمجتمع المدني والدعم الدولي.
لبنان، الذي مرّ بأزمات كثيرة في تاريخه، يملك القدرة على النهوض مجدداً. الأمل يكمن في قدرة الشعب اللبناني على تجاوز خلافاته والعمل معاً لبناء مستقبل أفضل. الرئيس الجديد يجب أن يكون رمزاً لهذه الوحدة والأمل، وأن يقود لبنان نحو مرحلة جديدة من الاستقرار والازدهار، والاختبار الأول يتمثل في تشكيل حكومة بروحية مختلفة عن سابقاتها، لمد الجسور الى الفضاء العربي الواسع، وهو الذي يشكّل الارتباط الطبيعي للبنان الذي افتقده خلال السنوات الماضية، نتيجة ارتباطات بمحاور تخالف حقيقة وطبيعة موقع لبنان بين أشقائه.