Site icon IMLebanon

لا تَفلحِ البحر

كتب الدكتور جورج شبلي:

لستُ مَمَّن يميلون الى التّشاؤمِ في مقاربةِ المستجدّات، فلا جوازَ، بعدُ، للغيبوبةِ أو القلق، ولا جوازَ، في الوقتِ نفسِه، لترحيلِ المواجهة الى زمنٍ آخر. وإذا كنّا لم نفتقرْ، بالأمسِ، لقادةٍ تاريخيّين، حقّقوا إنجازاتٍ غير اعتياديّة على مستوى القضية اللبنانية، من تفتيقٍ لأقبيةِ القهر والتّطويع، ودَحرٍ لجولاتِ القمع والوصاية، فالمطلوبُ، اليوم، أن تنتقلَ تاريخيّةُ أولئكَ، بالعَدوى، الى المسؤولين الرسميّين في السّاحةِ الحاضرة، لاحتكار القرار والنّهج، وللتصدّي للمُتلَطّين خلفَ آلةِ الاستقواء، فلطالما نقلَ الإيمانُ باللهِ وبالوطنِ وبالنّفس، الجِبال، فلن يعصى على الكرامة الغَضبى قُبحُ الأوصياءِ وتابِعيهم.

إنّ الظّاهرةَ الصحيّةَ في النّظام الديمقراطي، بالإضافةِ الى الحريّات، وفي طليعتِها حريةُ الرأي، والتّعبير عنه، أيًّا يكنِ الرأيُ طالما هو ملتزمٌ بمنطوقِ القانون، أن يكون في الحُكمِ موالاةٌ ومعارضة. من هنا، لا سبيلَ، بعدُ، لبدعة الحكومة الائتلافيّة التوافقية التي لم تُنتِج، على مَرِّ العهود، إلّا تسطيحًا لمفهوم الدولة، وسلسلةَ خيباتٍ هي عكسُ ما كان الشّعبُ يشتهي ويريد.

إنّ الخضَّةَ التي يمكنُ أن تقضيَ على الثّقةِ بالأفضل، هي الاستمرارُ بتَبَنّي التّوافقِ الكاذِب، في تأليفِ الحكومة، ما يؤدّي، حتمًا، الى استيقاظِ النّاس على خاتمةٍ بائسةٍ لسَرابٍ هائم، والى انتباهِهم لواقعهم الأليم، فيتشقَّقُ، عندَها، الأملُ الكرتونيّ، ويتحوّلُ الى يأسٍ قاتِل. وهكذا، يعودُ ” موسى ” الى العهد القديم، من دون أن يتقمَّصَ المسؤولين ليُحوِّلوا العصا ثعبانًا، ويَشقّوا المياهَ يباسًا موصِلًا الى أرض الخلاص. فما أبشعَ الوقائعَ المفروضةَ، حين يرتفعُ صوتُها ليغتالَ الوعود !!!

إنّنا نرفضُ، في عمليّةِ تأليفِ الحكومة، تفاوضًا، ومسايرةً، ومساومةً، وتسويات، لكنّنا نُصِرُّ على مواقفَ ملتهِبة، وصدمةٍ نوعيّة هي إعلانٌ عن استعادةِ الحكمِ المسلوب، والأمنِ المنهوب، وبدءِ مرحلة القدرة على تسيير شؤون البلاد بلا وصاية، أو استجداء، أو صفقات. فلا نِزالٌ بين الاستقامةِ على الحقّ، وهي، حُكمًا، من أدبيّاتِ المخزونِ السّيادي في ذاتِ الرئيسِ المُكَلَّف، وبين التنصّلِ والتقهقر، وطأطأة الرأس، فقَدَرُ الرِّجالِ في الثَّباتِ بالمواقفِ، وبكرامة، لا في الرّضوخِ للابتزازِ والتّهويل والتّهديد مِمَّن يُعانون العُريَ الوطني.

إنّ على رئيسِ الحكومة، من موقعه الدّستوري، أن يلامسَ جراح الوطن، ويؤدِّيَ دورًا رياديًّا في السّلطة، وتحت مظلّة القانون، ويقِفَ في وجهِ المتشنِّجين الذين يغيِّبون الديمقراطيةَ الحَقّة، ويتستّرون بتسلّطٍ هو عبءٌ ثقيلٌ على الدولة، ويصادرون حركة الحقوق، من دون أن يعلموا أنّ الحقوقَ في الوطنِ هي قضيةُ التزامٍ بقِيَمِ المواطنة، أي الانتماء والولاء والخدمة، وليسَت، بالتالي، قضيّةَ امتياز. من هنا، ينبغي على الرئيس المُكَلَّف أن يتجاوزَ خلفيّاتٍ المِلَلِ و” السّلبطة “، ويمنعَ إعادةَ إنتاجٍ لها، رحمةً بالبلادِ والعِباد.

إنّ النّقلةَ النوعيّةَ في سلوكِ الرئيسِ المُكلَّف، في مَهَمَّةِ تأليفِ الحكومة، وبقَدرِ ما هي انفتاحٌ وسلاسةٌ وليبراليّةٌ مع المعطياتِ، هي، أيضًا، رفضٌ لِما يَنتهكُ النّواميس، ويُشتِّتُ المقاييس، ويُسفِّهُ الدّستور، ويَعبرُ الى ضفّةِ الفَرضِ والشّراسةِ والتزمّت. فليس مقبولًا، بعدُ، أن تُساقَ الجمهوريّةُ، عن قَصد، الى أسواقِ نخاسةٍ جديدة، حيثُ يُتاجَرُ بكرامةِ وطن، وبأملِ شعب، ويُفرَضُ على الدولةِ حالُ العجزِ والاستغلال والانحطاط والضّعف، ويتمُّ اغتيالُ حلمِ الناسِ بالتطوّرِ، والنّهوضِ، والخلاصِ من جهنّم.

إنّ مَنْ نَكَبَ الوطنَ، ونَزَّفَه ضحايا ودمارًا، وزجّهُ في حربٍ أليمة، وأذاقَه طَعمَ الدمّ، كَرْمى لإيديولوجيّةٍ هجينة، ونَحَرَ الانتماءَ بالتبعيّةِ والارتهان، ليس من حقِّهِ أن يتمترسَ خلفَ بدعةِ الميثاقيّة المشوَّهة، ليفرضَ شروطَه، أسماءَ وحقائب. فإذا تحقَّقَ ذلك، لا يسعنا إلّا أن نقولَ، آسِفين، للرئيسِ المُكَلَّف، ونحن نحترمُ شخصَه وقيمتَه وجهدَه،  ” لا تفلحِ البحر “…