IMLebanon

رئيس الجمهورية… عين على «الشهابية» وعين على «السليمانية»

كتب سامر زريق في “نداء الوطن”:

ينظر الكثير من اللبنانيين إلى انتخاب قائد الجيش العماد جوزاف عون، رئيساً للجمهورية، على أنه محاولة جديدة لانبعاث “الشهابية”، والتي تعد حقبة مشرقة في تاريخ الجمهورية اللبنانية، وتحظى بموفور الاحترام والتبجيل في أوساط النخب، المنهكة من تزاحم الأزمات في ظل نظام سياسي يبدو عصياً على حصول اختراق جدي، يسمح بتجديد دمائه، وفي الوقت نفسه عاجز عن الخروج من شرنقة الانقسامات وتأثير الوصايات والمشاريع العابرة للحدود.

والحال أن رئيس الجمهورية أعطى الكثير من الإشارات “الشهابية”، من انتخابه في لحظة تحولات جيوسياسية عميقة في المنطقة، مروراً بكونه من خارج الاصطفافات السياسية التقليدية، وصولاً لتصريحه في “اليوم التالي” لانتخابه :”لست قادماً لأعمل في السياسة”، والمقتبس من الرئيس فؤاد شهاب الذي لطالما ردّد “لم تكن السياسة مهنتي”. وفوق ذلك، حجم التفاؤل الكبير الذي أحدثه خطاب القسم، في ترجمة لمقولة كلاسيكية بأن نجاح أي مركز حكم أو رجل سياسة هو في مدى قدرته على مداعبة الأمل عند الناس.

بيد أنه ينبغي عدم الإفراط في الأمل. وإذا كانت عين الرئيس على “الشهابية”، ونَهَلَ من مَعينها، فلا مناص من أن تكون عينه الأخرى على “السليمانية”، أي عهد الرئيس ميشال سليمان، الذي يشترك معه في الكثير من الخصائص، وحاول قبله تقديم نموذج شهابي. فسليمان حظي بقوة دفع عربية ودولية قبيل انتخابه وطيلة عهده، ترجمت بشبكة دعم لتحديث الجيش وتطوير المؤسسات، وساعدته على إقامة علاقات خارجية نشطة، دون أن يتيح له تحويلها لسياسة خارجية ثابتة، بفعل سلبية الواقع السياسي التي قوضت عوامل الدفع الإيجابية وبدّدت الفرص.

سعى سليمان، على نسق “الشهابية”، إلى الالتفاف على القوى السياسية التقليدية، عبر استدعاء نخب شبابية جديدة لضخ الدم في عروق النظام السياسي، وأدار حواراً وطنياً لإنتاج استراتيجية دفاعية، أفضى إلى ولادة “إعلان بعبدا”. لكن حدة الاستقطاب ممزوجةً ببعض الكسل الاستكشافي جعل السمة البارزة لعهده هي سياسة إدارة التوازنات والتساكن مع الأزمات. وحتى الضمانة التي أراد تقديمها بتسميته حقائب وزارية، سقطت بشكل مريع بفعل سوء الاختيار لشخصيات تقدم الولاءات الفئوية على الوطنية.

ومع ذلك، فإن الرئيس جوزاف عون يمتلك فرصة ذهبية لاستثمار كل العوامل الإيجابية التي رافقت انتخابه، من أجل الانتقال من سياسة إدارة التوازنات إلى سياسة القرار، عبر إعادة تعريف دور رئاسة الجمهورية، وتقديم نموذج الحَكَمْ الحقيقي، حارس “الكتاب” أي الدستور، وحامي الديمقراطية، الذي يترك النزال السياسي يأخذ مداه.

لكنه يتدخل بحسم لمنع فرض البدع الدستورية التي غلّفت المرحلة السابقة، تماماً كما يحصل في الوقت الراهن في تشكيل الحكومة، ومن قبلها استشارات التكليف. في موازاة استخدام كل الأدوات الدستورية والقانونية، لإشراك فئات مجتمعية تشعر بالإقصاء والتهميش ضمن النظام وآلياته، واحتضان الكفاءات وتحفيزها على الإبداع.

إحدى فلسفات “الشهابية”، والتي لم تكن عقيدة بل نهجاً سياسياً غير كلاسيكي، تطوير مفهوم الدولة، وتعزيز العلاقة بين النظام السياسي والمجتمع المدني، من خلال تشجيع كل مواطن على المشاركة في صياغة وتنفيذ المشاريع المشتركة على المستوى الوطني.

في حين أن أكبر الإشكاليات التي عانت منها “دولة الطائف” نتيجة الوصايات، وهيمنة الدويلة، وانتشار الجماعات ذات الخصوصيات الراديكالية، هي تهشيم فكرة الدولة. الأمر الذي يقتضي إطلاق عملية “تنمية سياسية” غير تقليدية، من ناحية المفاهيم والشخصيات، تبدأ من فريق رئيس الجمهورية، بما يمنحه القدرة على إنتاج ديناميات داخلية يمكنها تحفيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبلورة سياسة خارجية ثابتة تحت شعار “الحياد الإيجابي” يحتاجها لبنان بشدة.

وهذا ما كان الرئيس جوزاف عون بدأ بتطبيقه مذْ كان في اليرزة، من ناحية الانفتاح المجتمعي على فئات مهمشة، والتشارك مع المجتمع المدني في محاربة آفات خطيرة، واستقطاب نخب وعقول للوقوف على أفكارها وآرائها. وسرعان ما باشر غداة انتخابه رئيساً للجمهورية تأسيس فريق معاون متنوع بشكل هادئ ومتدرج. بيد أن ذلك لا يكفي. فالاختبار المفصلي للعهد يكمن في توازنات حكومته الأولى ونهجها، ومدى إمكان أن تمسي رئاسة الجمهورية “الحَكَم” الضامن لديمقراطية تتجنبّ الأثلاث المعطلة، الظاهرة والمتوارية، والتواقيع المأسورة. إذّاك تكون الطريق معبّدة نحو نموذج شهابي جديد، ما عدا ذلك يكون إنتاجاً لمرحلة جديدة من “السليمانية” بعناوين وأسماء جديدة.