كتب سامر زريق في “نداء الوطن”:
حينما أتى الأمر الإلهي لموسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون لدعوته إلى عبادة الواحد الأحد، طلب النبي من ربه أن يكون شقيقه هارون وزيراً له، كما ورد في سورة طه “واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري”. مصطلح الوزير مشتق من الوزر، والمقصود به الشراكة في حمل الأعباء الثقال، والمشورة السديدة، واللسان الفصيح الذي يمتلك زمام الخطاب القادر على الإقناع.
برز منصب الوزير في العهود الإسلامية المتعاقبة، وفي بعض الأحايين تساوت مكانته التاريخية مع الحاكم نفسه. ولعل من أشهرهم، وزير “السلاجقة” نظام الملك، الذي حارب الأيديولوجيات الدينو – سياسية الباطنية، خصوصاً فرقة “الحشاشين”، التي يعد نظام “الملالي” وريثاً لها، بـ “الفتوحات” العلمية والعقلية وفكر الدولة. بالإضافة إلى البرامكة في العصر العباسي، ومصطفى رشيد باشا، وفؤاد باشا، وعالي باشا، الذين كانوا من أبرز رواد الإصلاحات في الهزيع الأخير للدولة العثمانية.
والحال أن الرئيس المكلف القاضي نواف سلام أحوج ما يكون في مواجهته مع “فراعنة” السلطة و”الحشاشين الجدد”، إلى وزراء يمتلكون القدرة على إحداث فارق ملموس في الأداء، وترك بصمة “رجال الدولة”، الكفيلة بإخراج العمل الوزاري من حيز نظريات التكنوقراط الجامدة، والتكلّس الفكري المقترن بالشعبوية المفرطة للوزراء الحزبيين.
أول الأماكن التي يجب أن ينطلق منها، التمثيل السني بالتحديد، على عكس ما هو فاعل حالياً، بما يتيح له إقامة الحجّة على الباقين، عملاً بالمقولة المعيارية “من ساواك بنفسه ما ظلمك”. بيد أنه ثمة إشكالية في المعايير التي يريد سلام تطبيقها على التمثيل السني، من ناحية طبيعة الشخصيات في “أجندته”، وافتقارها إلى الحدود الدنيا من المشروعية السياسية أو الشعبية، وإقامة غالبيتها خارج البلاد، بما يؤسس لفجوة مع وجدان الجماهير، وعجز عن مواءمة الموقف السياسي مع التحولات السياسية الداخلية والخارجية.
لا مندوحة من تذكير الرئيس المكلف بفشل تجارب التكنوقراط الصافية في إحداث النقلة المأمولة في الأداء. وإذا ما استعرضنا تاريخ السنة في لبنان، نجد أنهم تميزوا بتقديم رؤساء الحكومات، فيما عانوا من فجوة وزارية هائلة. ذلك أنهم ما بين تأسيس الجمهورية و”الطائف”، انصرفوا بالكليّة إلى تركيز فكرة المشاركة في صنع القرار. وبعد “الطائف”، فرض الاحتلال السوري توزير أزلام استخباراته، تاركاً هامشاً ضئيلاً تاه تحت ظل رفيق الحريري ونجمه الساطع.
ومع ذلك، قدم لنا فؤاد السنيورة، الذي أعاد اللبنانيون اكتشافه كـ “رجل دولة” إبان حكومتيْه. بدوره أتاح الفرصة أمام ظهور رجال دولة آخرين، مثل نواف سلام نفسه، وطارق متري والشهيد محمد شطح، الذي يشكل نموذجاً سنياً فريداً، يجمع ما بين العلم والخبرة المتراكمة في عوالم الدبلوماسية والمعادلات السياسية المعقدة، والأهم الرؤية الاستشرافية للمستقبل، والتي تعد أكثر عنصر مفقود في السياسة راهناً، حيث لا تزال المقاربات أسيرة معادلات الماضي، خصوصاً عند أهل السنة، الذين يشعرونك بأنهم يتنفسون من رئتين: “7 أيار”، و”القمصان السود”.
هذا حال الرئيس المكلف، الذي يسرف في محاولاته استرضاء الرئيس نبيه بري وشريكه “حزب الله”، بشكل يوحي بأنهما يقبضان على الأكثرية البرلمانية وليس على الأكثرية الشيعية، وهما اللذين أمعنا في خلق أعراف من أجل ليّ عنق الدستور والقانون وتطويع الدمقراطية، فحوّلا السلطة التنفيذية من موقع صنع قرار الدولة، إلى البصم الأعمى على قرارات “الدويلة”، كما حصل في الاتفاق الذي أوقف الحرب الإسرائيلية.
أحد من الأعراف التي أدمن عليها “الحزب” و”أمل” خلال حكومات سعد الحريري ونجيب ميقاتي، حق الفيتو على أسماء الوزراء السنة. ناهيكم عن كونه خرقاً أخلاقياً ووطنياً، فإنه يعبر عن مدى ذهاب السنة بعيداً في تقديس نبيه بري، رغم جمعه مع رئاسة البرلمان خصومة السياسة وزعامة الميليشيا التي تعرفها شوارع بيروت، إلى درجة صار معها من شبه الاستحالة إيجاد موقف سني ينتقده.
ما صار السنة على هامش السياسة، في موقع المتفاعل أو المتفرج، إلا لانعدام الوزن السياسي في تمثيلهم البرلماني والوزاري. من الأمثلة على ذلك ما حصل مع وزير الصحة فراس الأبيض، الذي اقتحم مكتبه ذات مرة بضعة “زعران” في وزارته ينتمون لـ “حركة أمل”، لإجباره توقيع معاملات غير قانونية، وحينما تدخل مرافقه من قوى الأمن الداخلي، عوقب بالسجن دون الآخرين، وما خرج الوزير بموقف قط، ببساطة لأنه تكنوقراط.
وبالتالي فإن الطموحات المعقودة على تعويض هزال الحضور السياسي للسنة عبر التمثيل الوزاري، لا يمكن أن يحصل عبر نماذج مصدق عليها من “عين التينة”، أو عبر شخصيات تكنوقراطية، بما فيها تلك المقترحة من نواب “أهل البيت”، وخصوصاً ودائع “الحريرية”.
عملياً، لا يمكن للشهادات والمناصب في المؤسسات الدولية جَسْرَ محدودية الثقافة السياسية، والتي تنعكس بالسالب على إمكانية تطوير حضور السنة ضمن بنية النظام السياسي. كما أن مجرد الإنصات للنواب كفيل بانحدار التمثيل السني أكثر، لأنهم لا يريدون سوى معقّبي خدمات على أبواب الانتخابات، فيما مهمة رئيس الحكومة ووزرائه صياغة سياسات منبثقة من البيان الوزاري.
وعليه، فإن معيار التمثيل السني يجب أن يجمع ما بين العلم والتجربة السياسية والعمق الفكري، وصلابة الموقف وجرأته، والخطاب القادر على محاكاة نبض الشارع المتفاعل مع الحدث السوري من خلال امتلاك ناصية الكلام، وإخراج الحضور في المحافل العربية والدولية من الحالة النمطية الراهنة، ولا سيما أن عدم اكتمال الانسحاب الإسرائيلي يعني أن المعركة السياسية معها لا تزال في أوجّها. ومعركة بهذا الحجم والوزن لا يمكن الفوز بها بأسلحة “تكنوقراطية” لا باع لها في الدبلوماسية والسياسة.
بشكل أدق، هل يتابع الرئيس المكلف مدى إعجاب السوريين وسنة لبنان، نخباً وجمهوراً، بوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، وقدرته على مخاطبة الرأي العام الدولي والعربي، وإحداث الفارق في حضور سلطة بلاده الفتية؟ من هنا نبدأ.