كتب سعد الياس في “القدس العربي”:
تبدو حقيبة المال في التشكيلة الحكومية العتيدة عُقدة العُقد ويتجاذبها معسكران: الأول هو الثنائي الشيعي الذي يتمسك بهذه الوزارة نظراً لأهميتها ولما يرى فيها توقيعاً ثالثاً ومشاركة في السلطة التنفيذية، والثاني هو الفريق الداعم لرئيس الجمهورية العماد جوزاف عون وللرئيس المكلف نواف سلام الذي يرفض إعطاء هذه الوزارة لثنائي «حركة أمل» و«حزب الله» لئلا يتم استنساخ حكومات سابقة تم في خلالها التعطيل والتحكّم بعمل وزارات وإدارات كثيرة في الدولة.
في مراحل سابقة لم تكن تشكّل وزارة المال سبباً لأي خلاف حتى لو حلّ فيها وزير شيعي لأن الوزير المختص كان يهدف إلى تأمين إطلاع وزارة المال على كل القرارات المالية للدولة، وليس تعطيل هذه القرارات، ومنع نشرها وتنفيذها عندما يرتأي ذلك. وقد سبق أن مرّ على هذه الوزارة علي الخليل في حكومتَيْ سليم الحص عام 1989 وعمر كرامي عام 1990، كذلك أسعد دياب في حكومة رشيد الصلح عام 1992. لكن في حينه، لم يكن «حزب الله» يتمثل داخل الحكومات ولم يكن هناك هذا التحالف الوثيق بين «حركة أمل» و«حزب الله» الذي اختصر التمثيل الشيعي في البلد حتى وصل به الأمر إلى وضع اليد على المقاعد الـ 27 للطائفة الشيعية في مجلس النواب، ملغياً التنوع داخل الطائفة حيث كانت هناك في المجلس لسنوات خلت أصوات شيعية متمايزة مثل الرئيس حسين الحسيني والنواب باسم السبع ومحسن دلول وعاصم قانصوه وحبيب صادق ومحمد يوسف بيضون ويحيى شمص وسعيد الأسعد وغازي يوسف وأمين وهبي ومحمود عواد وعباس هاشم ومصطفى الحسيني وغيرهم. ولم تكن استقالة الرئيس الحسيني من المجلس النيابي عام 2008 إلا لكونه لم يعد يرى نفسه منسجماً مع الحالة السياسية المستجدة.
اليوم تعود مشكلة حقيبة المال ومَن يتسلمها في ضوء إصرار رئيس مجلس النواب نبيه بري على أن تكون من حصته، فيما الرئيسان عون وسلام لا يمانعان إسناد هذه الحقيبة للطائفة الشيعية وليس للثنائي خوفاً من تحكّم فريق الثنائي بأعمال الوزارات والإدارات وهو ما كان محل شكوى في عهد كل من الوزير علي حسن خليل والوزير غازي وزني والوزير يوسف خليل حيث تمت الإفادة من فائض القوة على الحياة السياسية، وعمد بعض وزراء المالية إلى رفض توقيع وتنفيذ قرارات صادرة عن مجلس الوزراء بالأكثرية، أو عن وزير ما في وزارته، ما أدى إلى تعطيل سير النظام السياسي بسبب وضع وزراء المال فيتو على بعض قرارات الدولة ومنح أنفسهم صلاحية منع تنفيذ أي قرار لا يتوافق مع سياستهم، كالامتناع عن توقيع مرسوم تشكيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز، ما أدى إلى عرقلة التحقيق في ملف تفجير مرفأ بيروت، الأمر الذي حوّل وزير المال إلى وزير ملك.
وما يشجّع الرئيس المكلف على خياره هو اعتقاده مع داعميه أنه لم تعد هناك قدرة لدى الثنائي الشيعي بعد التطورات الأخيرة على منع تشكيل أي حكومة وتعريض البلاد لأزمات سياسية وأمنية وطائفية إذا لم تتم تلبية مطالبه وخصوصاً لجهة نيل وزارة المال التي باتت حكراً على الثنائي منذ حكومة الرئيس تمام سلام إلى حكومة الرئيس سعد الحريري مروراً بحكومة حسان دياب ووصولاً إلى حكومة الرئيس نجيب ميقاتي.
قبل فائض القوة لم تبرز هذه المشكلة وسبق أن تعاقب على وزارة المال وزراء من مختلف الطوائف بدءاً بالرئيس رفيق الحريري وفؤاد السنيورة السنّيين في أربع حكومات بين 1992 و1998 ثم جورج قرم الماروني في حكومة الرئيس سليم الحص عام 1998، إلى فؤاد السنيورة مجدداً في حكومات الحريري عام 2000 و2003، والياس سابا الأرثوذكسي في حكومة الرئيس عمر كرامي عام 2004، ودميانوس قطار الماروني عام 2005 في حكومة الرئيس ميقاتي، وجهاد أزعور أيضاً الماروني عام 2005 في حكومة السنيورة، فالشهيد محمد شطح عام 2008 في حكومة السنيورة، إضافة إلى ريّا الحسن عام 2009 في حكومة الرئيس سعد الحريري، وصولاً إلى محمد الصفدي عام 2011 في حكومة ميقاتي.
غير أن للرئيس نبيه بري روايته الخاصة عن حقيبة المال، وهو يصرّ على أنه «تم تخصيصها للطائفة الشيعية في مداولات اتفاق الطائف وأنه بعد انتخابه رئيساً للمجلس النيابي في تشرين الأول عام 1992 أوفد الأمين العام للمجلس عاطف جانبيه إلى الرئيس حسين الحسيني للحصول على محاضر الطائف، لوفرة ما كان يقال فيه وعنه حيال الصلاحيات وتفسير بنود الدستور والتباساتها، بغية الاطلاع على ما ورد في المناقشات وروحية المشترع، لكن الحسيني لم يستجب، وكذلك لم يجب وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل حيث تم الاتفاق على أراضي المملكة».
هذه الرواية للرئيس بري ينقضها النائب والوزير السابق بطرس حرب الذي شارك شخصياً في مداولات الطائف، حيث قال «أود أن أؤكد أن وثيقة الوفاق الوطني، التي أقرّها النوّاب في الطائف، تضمنت كل ما تم الاتفاق عليه من مواد ومواضيع، وأن كل ما يُزعم أنه قد تم بتّه ولم يرد فيها غير صحيح لأنه لم يحصل اتفاق حوله. هذا مع إقراري بأن مواضيع عديدة قد طرحت أثناء مناقشة التعديلات الدستورية، ومنها إيلاء الطائفة الشيعية وزارة المال مثلاً، ولم يتم إقرارها لأنه لم يحصل اتفاق حولها. ما يعني أن إيلاء حقيبة وزارة المالية إلى الطائفة الشيعية لم يُبت إيجابياً، كما نُسب إلى الرئيس بري قوله، بل على العكس من ذلك، قد بُتّ سلبياً لأن المؤتمرين لم يوافقوا عليه، كما لم تحدد طائفة أي وزارة من الوزارات تثبيتاً لمبدأ المداورة عليها، بحيث لا تكون أي وزارة حكراً على طائفة معينة، كما ليس من وزارة محظرة على طائفة ما».
تجدر الإشارة إلى أن من يتربّع على وزارة المال هو الذي يعد الموازنة العامة للدولة ويتدخل في موازنة كل الوزارات، وهو الذي يقترح تعيين حاكم مصرف لبنان وبإمكانه في حال الامتناع عن توقيع المراسيم أن يعطل التعيينات والتشكيلات القضائية والأمنية والإدارية، وأن يعرقل تمويل الكهرباء.