كتب شارل جبور في “نداء الوطن”:
لم يكن يصحّ الكلام عن الفدرالية في زمن “حزب الله” وسيطرته على مفاصل الدولة اللبنانية، لأنه لن يتنازل بالإقناع ولا الحوار عن مرتكزات الفدرالية الثلاثة: الدفاع والخارجية والمالية، هدفه أبعد من إلحاق الجمهورية اللبنانية بثورة إيران الدينية العنفية، يصل حدّ إلغاء الحدود بين دول العالم قاطبة وإخضاع شعوبها لإمرة الولي الفقيه.
فما كان يصحّ في زمن “حزب الله” هو التقسيم بالقوة لا الفدرالية بالإقناع، أي فرض أمر واقع على الأرض، والفصل نهائياً بين الجمهورية اللبنانية وجمهورية “الحزب” الإيرانية، لأن مشروعه هو السيطرة على لبنان كله وليس على جزء منه، وكان يعتبر أن عامل الوقت يعمل لمصلحته من خلال التمدُّد الديموغرافي والجغرافي على وقع سيطرة عسكرية وسياسية أدت وتؤدي إلى تهجير الناس التي تريد العيش وسط بيئة مستقرة، فيما الفوضى، كما السلاح، علة وجوده، لأنه يعيش في الفوضى، ويعتبر أنه بواسطتها يستطيع تهجير الناس التي تكره الفوضى ليستوطن أرضها.
الحل الوحيد للبنان في مرحلة ما قبل سقوط المشروع الإيراني التوسعي التخريبي في غزة ولبنان وسوريا كان التقسيم، لأنه يستحيل العيش أو التفاهم معه، فيما هذا المشروع أساساً يخيِّر شعوب الدول التي يسيطر عليها بين خيارين: الخضوع أو الرحيل، وبالتالي الحفاظ على الهوية اللبنانية لم يكن ممكناً سوى بالفصل والانفصال.
لم يكن “حزب الله” في وارد تطبيق “اتفاق الطائف” ولا القبول بالفدرالية ولا السماح بالتقسيم، لكن أصحاب المشروع الفدرالي، نجحوا في الفترة السابقة ليس فقط في كسر الحظر حول هذا المشروع، الذي تمّت شيطنته بهدف إلغاء التنوّع والتعدُّد والسيطرة على الأرض، إنما في توسيع قاعدة حضورهم وتأثيرهم وفعاليتهم.
لا حاجة للتكرار بأن الفدرالية ليست تقسيماً، وتصويرها على غير حقيقتها كان مقصوداً بهدف شيطنتها، وأقوى دليل على ذلك ثلاثية مرتكزاتها: عملة واحدة، سياسة خارجية واحدة وسياسة دفاعية واحدة، فيما التقسيم يعني تقسيم لبنان إلى دولتين أو أكثر ولكل دولة سياستها الخارجية والدفاعية والمالية.
كان يستحيل تطبيق الحياد، وأن تتولى الدولة الدفاع عن سيادة لبنان وإرساء استقرار مالي في ظل دور “الحزب” العسكري الذي مثّل العقبة أمام تطبيق أي نظام سياسي، ولكن بعد سقوط مشروع “الحزب” العسكري واستعادة الدولة للقرار الدفاعي والمالي والخارجي، أصبح الكلام عن الفدرالية قابلاً للصرف والترجمة، شرط موافقة المكونات اللبنانية كلها في حوار عقلاني برعاية رئيس الجمهورية.
لا حاجة اليوم لحوار حول ما يسمى الاستراتيجية الدفاعية التي كانت الغطاء الشرعي لسلاح “حزب الله” غير الشرعي، لأن سلاحه ومشروعه الإقليمي انتهى، والموضوع السيادي غير قابل للبحث ولا النقاش، والدولة وحدها تحتكر القوة.
الأولوية في هذه المرحلة قبل الحوار حول النظام، بسط سيادة الدولة على الأراضي اللبنانية كلها ضمن فترة ستة أشهر، إعادة الهيبة للدولة ودورها، استعادة الاستقرار السياسي والمالي، وشعور الناس بأن لبنان طوى صفحة الحروب التي بدأت مقدماتها في العام 1965، وانتهت مع استسلام “حزب الله” في 27 تشرين الثاني وسقوط الأسد في 8 كانون الأول.
الحوار لا يعني إلغاء الاستحقاقات ولا ترحيلها، إنما يفترض حصوله بالتوازي مع عودة لبنان دولة طبيعية، فتكون النفوس قد هدأت، ولا يكون على وقع الضغوط ولا التشنُّج ولا الانقسامات، إنما في سبيل البحث عن مستقبل أفضل للبنانيين، بعيداً من الأفكار المسبقة والعقائد القديمة البالية والخلفيات التي أصبحت مكشوفة برفضها المبطّن للتعددية اللبنانية رهاناً منها على الوقت لإلغاء التنوّع.
ويجب الإقرار بأن سقوط لبنان في مستنقع الحروب والفوضى كان لسبب خارجي وآخر داخلي: مشاريع توسعية خارجية تتقاطع معها بيئات لبنانية، ولولا تقاطع هذه البيئات لكانت المشاريع الخارجية فشلت في التسلل من الحدود اللبنانية، وبالتالي سقوط العامل الخارجي في هذه المرحلة لا يكفي للكلام عن ديمومة الاستقرار اللبناني، طالما أن هناك بيئة لبنانية جاهزة للتفاعل مع أوّل مشروع خارجي يمكن أن يطل برأسه، وبالتالي وجب الاستفادة من سقوط مشروع الأسد وإخراج مشروع الولي الفقيه من أجل حوار هادئ حول معنى لبنان، وكيفية تنظيم تعدديته بأفضل صيغة ممكنة.
لبنان المركزي سقط سقوطاً مريعاً وفشل فشلاً ذريعاً، وهناك دوماً من يريد السيطرة على مركزية القرار، إما لأسباب سلطوية وإما لخلفيات عقائدية أو دينية أو قومية، وإما حفاظاً على الوجود والهوية، وبالتالي تلافياً لكل ذلك، حان الوقت للانتقال من المركزية الفاشلة إلى رحاب “اللامركزية” السياسية والمالية والإدارية على قاعدة وطن واحد وأرض واحدة ومركزية الدفاع والخارجية والمالية.