بقلم : الدكتور جورج شبلي
وكأنّ الآلة الجرثوميّة تتمدّد، من جديد، بعد أن ظَنَّ اللبنانيّون أنّهم ارتاحوا من أذاها الذي طالَ البلادَ والعِباد، قتلًا، وقهرًا، وتدميرًا، وفسادًا، وتهويلًا… حتى باتَ أهل الوطنِ مُقتنِعين بأنّ البُشرى بالخلاصِ، وبالغبطةِ النهائيّة، دُونَها عقباتٌ قاسية، وبالتالي، لم تكن سوى وَهمٍ عابر. من هنا، وبعدَ أن عاشَ اللبنانيّون أقصى انسجامٍ مع الأمل بمشروع الدولة، والرّجاءِ بالسّلام، غُيِّبَت عُشبةُ الرّجاء، بل مزَّقَها شَوكُ اليأس، والإحباط…
ليس مُستَعصِيًا على الكثيرينَ معرفةُ أسبابِ عودةِ المعاناةِ المُتَقَمَّصة الى البلاد، وكأنّ دَربَ الآلامِ تمركزَت في الجلجلة، ولم تعبرْ، بعدُ، الى نقاءِ القيامة. فبالرّغمِ من التّنازلِ الذي أبداه المواطنون، بالصَّفح، وفي مقدّمِهم السياديّون، وبالرّغم من الجُهدِ الذي بذلوه في فَتحِ نافذةِ العودةِ الى الوطن، وبالتّرحاب، لأولئكَ المشدودين الى ثقافة الموت، والذين نحروا سلوكَ الولاء للبنانَ الذي حوّلوه، بعَبَثِهم، كتلةَ دمٍ ودموعٍ وتراب، انتصرَ، فيهم، عقمُ الشّعورِ بالمواطنة، فاستمرّوا في استيرادِ الكوارث، وعادَت جذوةُ شرِّهم الى الاشتعال، وتغلَّبَت، معهم، غريزةُ هَدمِ البلاد وزجّها، مجدَّدًا، في جحيم النّار، بدلًا من مقاربةٍ موضوعيّةٍ لحقيقة انهزامهم، وتَبَدُّدِ المحور الذي ينتمون إليه، واقتناعِهم بأنْ لا ملاذَ لهم إلّا بمشروع الدولة.
في الحقيقة، إنّ في دربِ لبنان كثيرًا من الحُفَر، أبرزُها ادّعاءُ المستقوين بأنّهم أبطالُ المَلاحم، وأنّهم أحفادُ ” شمشون ” الأسطوريّون، وأنّ ما أَتَوه من إنجازاتٍ في الحرب العبثيّة القاتِلة، ينتمي الى الصّدقِ التّاريخي. واستنادًا، يُصِرُّ هؤلاء، وبنبرةٍ حادّة، على فَرضِ إرادتِهم في عمليّةِ تأليف الحكومة، حقائبَ وأسماءَ وعددًا، ويحجبون عن غيرِهم ما يريدونَه لأنفسهم، وهم بذلك، يعرقلون مسارَ الحكم، وانطلاقةَ العهد، وإمكانية شفاء البلاد.
إنّ المطلوبَ من المَعنيّين في سدّةِ السّلطة، تكسيرُ أنيابِ الوحش، وأظفارِهِ، والتحرّرُ من سَلبطَتِهِ، واستبدادِه، وعدمُ الارتماءِ أمامَ رغباتِهِ، بتَلَطُّفٍ، ودُونيّة، ليستمكنَ أكثرَ فأكثر. وليَعلَمِ المعنيّون ذاتُهم، بأنّ الشّعبَ، في غالبيّتِه العُظمى، يتوقُ الى أداءٍ مواجِهٍ، وبأسلوبٍ جريء، ويكرهُ سياسةَ النّعامة، والمساومات، وتَجاهلَ الدّستور، والخضوعَ لشهواتٍ وثنيّةٍ للسلطة، والخوفَ من الاستقواءِ بسلاحٍ غيرِ مشروع، فذلك خَرقٌ فاضحٌ للمناقبيّةِ المطلوبةِ في ” الكراسي “، وانحطاطٌ موصوفٌ في ثوابتِ النّظامِ المَأمولِ للتّشكيل، ما يقودُ الى التّشكيكِ في التّغيير، ويُعيدُ البلادَ الى المُنحدرِ حيثُ مستنقعاتُ الفسادِ، والاحتكار، والصّفقات، والمحاصصة، والتي يديرُها حِلفُ المافيا والميليشيا.
إنّنا نعرفُ، تمامًا، أنّ الطّريقَ وَعرٌ، مُشَوَّش، مُظلِم، مُعَقَّد، وأنّ جِزيةَ تَعبيدِه ليست سوى الجرأة، فبها وحدَها، يعبرُ الوطنُ بسلامٍ، ومن دون أن تُعرقلَه ” الفَركشاتُ ” المعروفة، الى الخيرِ، والتطوّر، والأمان، ورفاهيّةِ أهلِه. وللتّذكير، فإنّ ما طغى على خطابِ السّلطة، كان إنجازًا احتُفِلَ به كالمولودِ من امرأةٍ عاقِر، لكنّ ما يرشحُ، اليوم، هو حالةُ ارتباكٍ ضبابيّةٌ مضطرِبة ٌ ينبغي أن تزول، لأنها تطرحُ إشكاليّةً حولَ المواقفِ المُنتَظَرة من القيادةِ الرياديّةِ الجديدةِ النّاشطة، والتي لطالما حلمَ بها النّاس، خلاصًا من موبقاتِ العهودِ السّالفة، وسَرَطانيّةِ البُنيةِ في الدولة، حتى تتمَّ النّقلةُ النوعيّةُ من واقعِ الرّمادِ الى الهواء النّظيف. أيّها القادةُ، واجِهوا كما يريدُ الوطن، فكلَُ التّصفيق بانتظارِكم…