كتب ريشار حرفوش في “نداء الوطن”:
ليست التعيينات في لبنان مجرد إجراءات إدارية روتينية، بل ركيزة لاستمرارية المؤسسات العامة وضمان فعاليتها. وينعكس غيابها مباشرة على المواطن الذي يلمس تراجعاً في مستوى الخدمات العامة وتفاقم الفوضى الإدارية.
وبات هذا الملف أسير التجاذبات السياسية والتعقيدات الدستورية، خصوصاً في ظل الفترات الطويلة التي تقضيها الحكومات في تصريف الأعمال.
فراغ إداري شامل
وتشير الأرقام إلى أن 134 وظيفة من أصل 236 ضمن الفئة الأولى وما يعادلها لا تزال شاغرة، أي ما يعادل 56% وتتوزع على الطوائف بنسب متفاوتة:
الموارنة، 31 وظيفة شاغرة من أصل 57 (أهمها قائد الجيش، حاكم مصرف لبنان، والمدير العام لوزارة المال).
الأرثوذكس، 14 من 18.
الروم الكاثوليك، 15 من 26 (بينها المدير العام لوزارة الأشغال والمدير العام لتلفزيون لبنان).
الأرمن، 2 من 4.
الأقليات، 1 من 4.
السنة، 22 من 45 (بينها رئيس مجلس الإنماء والإعمار).
الشيعة، 26 من 46 (بينها المدير العام للأمن العام، المدير العام للتعليم المهني والتقني، ومدير المغتربين في لبنان).
الدروز، 8 من 18 (بينها المدير العام لوزارة الصحة العامة).
العلويون، وظيفتان غير شاغرتين.
وظائف مستحدثة، 16 وظيفة لم تُحدد طوائف شاغليها بعد.
مناصب شاغرة منذ أكثر من عقد
لم يتم إنهاء الشغور في بعض المواقع القيادية في الدولة منذ أكثر من 10 سنوات، ما يعكس عمق الأزمة، وعلى سبيل المثال، موقع المدير العام للتنظيم المدني الشاغر منذ عام 2005، ومثله موقع المدير العام للطرق والمباني منذ 2010.
إن الفراغ في المناصب العليا يفتح المجال أمام الاستنسابية والمحسوبيات، حيث يُكلف أشخاص بمهام تتجاوز صلاحياتهم، ما يؤدي إلى تداخل الصلاحيات والفوضى الإدارية، ويسمح لتدخل الوزير والذي يكون بأغلب الأحيان الجهة المعيّنة للوكيل بشؤون البديل غير الأصيل المعين وبشؤونه. كما أن بعض المواقع يستخدم كورقة تفاوضية بين القوى السياسية، ما يجعل المؤسسات رهينة الحسابات الضيقة بدلاً من أن تكون مساحة عمل لمصلحة المواطن.
تصريف الأعمال: مأزق إضافي
كيف يمكن لأي مؤسسة أن تعمل بفعالية إذا رأس الهرم فيها يستمر الشغور فيه لسنوات وسنوات؟
إن المعضلة الكبرى هي أن الحكومات في لبنان تقضي معظم ولايتها في تصريف الأعمال، ما يمنعها من إجراء تعيينات جديدة، فتصبح المشكلة متراكمة عاماً بعد عام، وهذا ما يحصل اليوم حيث أن أغلبية الوظائف، وخصوصاً الفئة الأولى والثانية باتت شاغرة. ويطلب ملء هذا الشغور حكومة أصيلة لا مستقيلة تقوم بإجراء التعيينات بالترتيب المطلوب من دون أي استنسابية فيها. وشددت الحكومة الجديدة بلسان رئيسها القاضي نواف سلام مراراً على رفض المحسوبيات في التعيينات الوزارية قبل الوظائف الرسمية.
يقوم مجلس الخدمة المدنية بدور محوري في ضمان نزاهة وشفافية عملية التوظيف في القطاع العام. ويتمثل دوره في وضع المعايير الفنية والإدارية المطلوبة لشغل الوظائف الرسمية، وإعداد الامتح2انات التحريرية والفنية التي تُقَيّم قدرات ومهارات المتقدمين. وبعدها يقوم المجلس بتصنيف وتقييم المرشحين بناءً على نتائجهم، لضمان اختيار الأكفأ من بينهم. ثم يقدم المجلس توصياته للجهات المعنية بتوظيف الأفراد، بحيث تُتخذ قرارات التعيين بناءً على الجدارة والشفافية، ليشرف في ما بعد على سير عملية تطبيق مبادئ النزاهة والمساواة بين جميع المتقدمين.
ليست أزمة التعيينات في لبنان مجرد خلل إداري، بل أزمة ثقة بين الدولة والمواطن. ويقع واجب إنجاز التعيينات كاملةً على عاتق حكومة سلام الأصيلة لضمان الانطلاقة الموعودة للعهد الجديد. ولا يمكن لأي بلد أن ينهض ومؤسساته مشلولة بسبب الفراغ في المناصب القيادية.
بالمختصر، يمكن للإرادة السياسية الصادقة وحدها إنهاء هذه المعضلة وإعادة الاعتبار لمفهوم الدولة الفاعلة.