بقلم : الدكتور جورج شبلي
إنّ أوّلَ ما يطفو على سطحِ المراقبة، والاستنتاج، بعدَ هرطقاتِ المُمانِعين في حَرَمِ المطار، وعلى الطّرقات وقارعاتِ الشّوارع، هو أنّ الوطنَ وَهْمٌ يذوبُ في غيريّةٍ إثنيّة، إيديولوجيّة، وأنّ الانتماءَ انتقلَ، مجاهرةً، الى خارطةٍ غيرِ خارطةِ لبنان.
لم تكن الصّدمةُ فادحةً نتيجتُها، فالتجمّعُ البشريُّ المُسَمّى ممانعة، لم يصمدِ الولاءُ للوطنِ معه، منذ الأساس، وبالتالي، إذا أردنا استكشافَه لن نجدَ له أثرًا، من هنا، فالرِّهانُ على ” تَكويعةِ ” هذا التجمّع، هو رهانٌ عبثِيٌّ عقيم، كمَنْ يَفلحُ البحر. إنّ قُطّاعَ الطُّرقِ الغوغائيّين، هؤلاء، الذين، لطالما جاهروا بالتزامهم الدّيني، والسياسي، بدولةِ المَلالي في إيران، وخدموا مصالحَها وأهدافَها، واندمجوا في مشروعِها حتى الذَّوبان، لن تنجحَ أيُّ جراحةٍ في إجراءِ تَكويعتِهم صَوبَ الوطن.
إنّ مشهدَهم ” الحضاريّ ” في الشّارعِ ليس سوى دراما وطنيّة، ورَسمٍ كاريكاتوريٍّ لزمنِ الغزوات، وتَحَدٍّ للدولةِ وللشّعب، وهَدمٍ لمنظومةِ القِيَم، والتصاقٍ بهمجيّةٍ قَبَليّة، وحقلِ ألغامٍ مُفَخَّخٍ يستدعي الاشمئزازَ، لأنّ ما يُشاهَدُ، ويُسمَع، هو لوثةُ زمنٍ رديء. فمهما كانت قراءةُ الأحداثِ حَسنَةَ النِيّة، فما يُعايَنُ لا يتركُ مجالًا للشكِّ في أنّ هؤلاءِ “المُنتَصِرين ” يُبلِغونَ المواطِنين، وأركانَ الدولة، بممارساتهم، بأنّ ” خَطِّة قَدَمْهُم لم تزل هدّارة “، وما على الباقين في مساحةِ البلاد، إلّا الارتعاب!!!
وبالعودةِ الى مفهومِ الدولة، وهو مفهومٌ غيرُ مشَوَّش استنادًا الى القاموس السياسيّ الدَّولي، يبدو لنا أنّ ممارساتِ المُمانِعين لا تمتُّ بِصِلة لهذا المفهوم. فإذا تَبَنَّينا ما قالَه “هوبز ” من أنّ الدولةَ تنشأُ ضمنَ تعاقدٍ أو ميثاقٍ بين المواطنين لينتقلَ هؤلاءِ من حالةِ الطبيعة، أي حالة الهمجيّة، الى الحالة المدنية، يتأكّد لنا، بالبرهان المحسوس، أنّ حالةَ الفطرة البعيدة عن مفهوم الدولة، هي السائدة عندَ ” الشّوارعيّين “. والواضحُ أنّ سيطرةَ شريعة الغاب، والتي من بنودِها الأساسيّة أنّ الحقَّ للقوة، هي التي تَحولُ دون قيامِ كيانٍ ذي سيادة، والذي من دونِهِ يستحيلُ حفظُ النّظام والاستقرار.
ولمّا كانت الدولةُ هي الضّمانَ الأوحدَ ضدّ الفوضى، والأنارشيّة، وهي الرّادعة لعدم اعتبار ضوابط القوانين والمبادئ، ولامتلاك السلاحِ بشكلٍ غير شَرعيّ، ولفرض إيديولوجيّةٍ مستورَدة تخالفُ الدّستور، ولامتلاك السّلطة بالقوة… نرانا، في الواقِع الذي كان مفروضًا، أمامَ حالِ انهيارٍ لبُنى الدولة، وتَفَشّي ممارساتِ الاستقواء، أمامَ مواجهةِ حقيقةٍ مُرَّة هي غيابٌ تامٌ لِما يُسَمّى دولة حامية للناس، وضامنة لحقوقهم.
ولمّا كانت الدولةُ هي القوةَ العُليا التي تعلو فوق أيّ تنظيماتٍ أو جماعات موجودةٍ داخلَها، وأنّ أجهزتها هي المرجعية الوحيدة المسؤولة عن صياغة القرارات، وتنفيذها، وتمتلكُ، وحدَها، قوةَ الإرغامِ لضمانِ الالتزامِ بهذه القرارات… نرانا، بحكمِ الواقع الذي كان مفروضًا، أمامَ تقويضٍ لإدارات الدولة ومؤسّساتها، وتخريبٍ مُمَنهجٍ لمقوّماتِها بهدفِ إفراغها من مضمونها، لتنتقلَ السّلطةُ الى الميليشياويّين الذين نشلوا الدولةَ، وزجّوا البلادَ في جهنّم.
إنّ حياة الناس مرهونة بوجود الدولة، وهي، وحدَها، ترعى شؤونَهم، وتعملُ على نشرِ الأمن والسلامة بينهم، وعلى تأمين حقوقهم وصَونِ حريّاتهم، ليسودَ مناخُ العدالةِ والحرية على الجميع. ولمّا كان الشّعبُ توّاقًا الى الدولة، رافضًا لكلّ أشكال القهر، والعنف، والتسلّط، والاستقواء، فإنّنا نضعُ مطالبةَ الناس بالأمانِ، والاطمئنان، والأمل بالمستقبل، برَسمِ المسؤولين، ليكون مشروعُ قيامِ الدولة السيّدة، القادرة، الجريئة، الباسطة سلطتها على كامل مساحة البلاد، هو البندَ الرّكيزةَ في أولويّاتهم، فلا خلاصَ إلّا به، بديلًا عن الهمجيّة الانحطاطيّة التي نراها على شاشةِ هذه الأيام.