بقلم الدكتور جورج شبلي:
ليس كابوسًا أن يتعرّضَ الواحدُ لنكساتٍ اقتصاديّة، أو صحيّة، أو علائقيّة، فلكلٍّ من هذه النّكسات دواء، أمّا أن يغتالَ كرامتَه بنفسِه، فهذه نكسةٌ من العِيار الثّقيل، يُكابدُ، بها، شخصُهُ هزيمةً نكراء، وتَرقيعُها شبهُ مستحيل، إنْ لم نَقُلْ معدومًا.
هنالك قناعةٌ سيكولوجيّة مفادُها أنّ كلّ إنسانٍ، أيًّا كانَ وزنُه، هو عِرضةٌ لمعادلةِ الخطأ والصّواب، بمعنى أنّه ليس معصومًا عن الزَّوغان، وعن عزلةٍ مرحليّةٍ للعقل، فلا أحدَ كامل. ولكنّ الغربةَ الكاملة عن عملِ المنطقِ الذي ينظّمُ تصرّفاتِ القوّة العقليّة، مَنعًا لتأثير التوهّم، والانحراف، عليها، ما يقودُ صاحبَها الى نَقضِ مقاييسِ الاتّزان، فهي غربةٌ شنيعة، تقودُ الى الضّلال، والتخبّط الفكري، وبذلك، تستدعي حقيقةً واقعيّةً تُشيرُ الى استمكان العُطلِ بمركز التّفكير الدّماغي.
إنّ بعضَ السّلوكِ، والقرارات، والأداء، في يومِنا الحالي، يشيرُ، وبوضوح، الى زمنِ تراجيديا الكرامة، أو أنّ حضورَ الكرامةِ في بعضِهم ليس مُنجَزًا. فالكرامةُ، بالمفهومِ الخُلُقيّ، والقِيَمي، والنّفسي، هي الفِعلُ المُحرِّرُ من كلِّ العِلَل، وقد نحرَها البعضُ بأداءٍ لا ينمُّ عنه سوى الرّضوخ، والخوف، ما يُلزِمُ هذا البعض بإعادةِ النّظرِ بمفهومِ الجَلاء.
في ذكرى الكرامة، لا أعلمُ متى سيُرفَعُ الحصارُ عنها، ولا أرى، عند البعض، غيرَ فِعلِ تهديمِ الثّقة بين الكرامةِ والعنفوانِ، وهذه واجهةٌ لا يبينُ منها، للعاقلين، إلّا الألمُ والخيبة. كنتُ أظنُّ أنّ الذين أعرفُهم من ذَوي القيمةِ المنطقيّة، والذين يقيمون للرزانةِ وزنًا، لن يُصيبوا كرامتَهم بنكبة، ولن ينساقوا، بحُكمِ القدرةِ على رَفضِ الإكراه، الى تشليعِ عزّةِ نفسِهم، وتمريغِ أَنَفَتِهم بوَحلِ الانحناء.
في ذكرى الكرامةِ الملازمةِ لوجودِنا، علينا أن نُخضِعَ مفهومَها لتقييماتٍ جديدة، صارمة، بحيثُ لا ينسحبُ حضورُها، مجّانًا، على الجميع. فمَن قدّموا سَيلًا من التّضحيات فوقَ مذبحِها، وكتبوا فصولَها بالحبرِ الأحمر، مؤمِنين بأنّها تشكّلُ، لديهم، رأسَ الهرمِ القِيَمي، وَجَبَ احترامُهم، وتكريمُهم. أمّا مَنْ داسوها، وزجّوها في معتقلِ الكذبِ، والتّشويه، وتَلَوّنِ المواقف، فكلامُهم عنها هو كالسفينةِ على أرضٍ يابسة، ولا عَجَبَ إِنْ حجبوا كرامتَهم عن سلوكِهم، ففاقدُ الشيءِ لا يُعطيه.
في ذكرى الكرامة، حارسةِ الكِبَر، هناكَ مَنْ عاشَت الكرامةُ معهم مَدًّا وجَزرًا. فمتى كانوا في مأمنٍ مضمون، اضطَرَمَ تكرارُ ذِكرها في كلامهم، لَفظًا، وكَذِبًا، ومتى برزَ أيُّ خطرٍ، أمامَهم، أو كانت الأولويةُ لمصالحهم، أو آثروا تبييضَ صفحتِهم، عمدوا الى قوقعتِها في أقبيةِ التّمويهِ، وباعوها بأبخسِ الأثمان، وأسدلوا عليها ستارَ الليلِ والصَّمت، وكأنّها لم تكنْ.
في ذكرى الكرامة، والكرامةُ تَمَرُّد، وتَحَرُّر، ينبغي هَدمُ جدرانِ سِجنِها على مَنْ بَناه، ومَنْ بَناهُ زاحِفٌ، ذليل، يغمسُ جبينَه المُمَرَّغَ بالعار، في كومةِ الأَرجل. فإلى مُدمِنِ ضَعف الشخصيّة، يا سيّالَ الثرثرة، الذي اندلعَت علاقةٌ نزاعيّةٌ بينكَ وبين الكرامة، عسى أن تُفرِّخَ ذاتُكَ كرامةً وإباءً… لكنّني غيرُ متفائل لأنّ الأعمى، وإنْ حملَ سِراجًا، فإنّه لا يُبصِر.