IMLebanon

الحَيط الواطي…

بقلم : الدكتور جورج شبلي

تقول الحكمةُ الشّعبيةُ المعهودة : “إذا كان الحَيط واطي، كلّ الناس بيفزّوا فَوقو “. وقد سرى هذا الكلام، بشكلٍ جدّي وموَثَّق، على الكثيرِ من واقعِ لبنانَ السياسي، والأمني، والإداري… فكلُّ مُستَقوٍ، بالمالِ، أو بالسّلاح، أو بالدّعم الخارجي، كان ” ينطُّ ” فوق حائط الدولة، والسّلطة القائمة، والقانونِ السّائد، وكان غيرُهُ يتمنّى أن يحذوَ حَذوَه. أمّا الغريبُ العجيبُ المُستَهجَن، فهو أنّ الذين ” نطّوا “، وشَبعوا نَطًّا، يتبرَّأون من “نَطِّهم” بألفِ حجّةٍ سفسطائيّة، ويتّهمون الباقين الذين عجزوا عن ” النَطّ “، وآثروا، ربّما، البقاءَ تحت سقفِ الدولة، بالرَّغم من هلهلةِ هذا السّقف، بأنّهم يعطّلونَ مسارَ قطارِ الحكم، ويضعون عِصِيًّا في سِكّتِه.

وانطلاقًا مِمّا تقدَّم، يجدرُ بنا التّركيزُ على أمرَين اثنَين هما تبيانُ المواقفِ الاستعراضية لأفرقاءِ السّاحة السياسيّة، بما تتضمّنُه من تناقضٍ ومشبوهات، وتحذيرٌ لأولياء الشّأن في الحُكم حتى لا يقعوا في الشَّركِ الموصِلِ الى الفشل.

ينقسمُ المتعاطون في الشّأن العام، عندَنا، الى فئتَين : الموالاة والمعارضة. وفي غالب الأحيان يقعُ سببُ هذا التّقسيمِ في توفيرِ المصلحةِ وتحصيلِ المغانم، أو عدمِهما، ولا يستندُ الى المبادئِ وقواعد الديمقراطية. ولمّا كانت الموالاةُ، في الحقيقة، هي الغالبيّة التي تُنتجُها الانتخابات، وتتولّى، بذلك، مقاليدَ الحكم، ولمّا كانت المعارضةُ هي الأقليّةَ التي لم تحصلْ على أكثريةِ المقاعد النيابيّة، فتتولّى مراقبةَ عملِ الحكومة، وتوظّفُ تجاوزاتِ أعضائِها في الأداءِ، لمصلحتِها في الدورة الانتخابية التّالية، وهذا حقُّها; لكنّ ذلك السّلوك لم يحصلْ في زمنِ لبنانَ إلّا بالنَّذرِ اليسير، إنْ بتسلُّطِ الميليشياويّين المستَقوينَ بالتّرهيب على الغالبيّةِ النيابيّة، وإنْ بمشاركةِ المعارضين في الحكمِ، وبالانتفاضةِ عليه، في آن، فهم في الدّاخلِ وفي الخارج معًا، وبشكلٍ بَهلَوانيٍّ، ما يؤدّي، حُكمًا، الى زعزعةِ سلطةِ الدولة، وضربِ مصالح الناس الحيويّة.

إنّ الهدفَ من حالةِ الانفصامِ في التّعاطي السياسيّ لبعضِهم، بالمشاركة والمعارضة، باتَ واضحًا، فهو، من ناحيةٍ أُولى، تَلَطٍّ بالسلطة لأنّها توفِّرُ شمسيّةً تَقي هذا البعضَ من أيِّ اتهّامٍ له بتعطيلِ نهجِ العهد; لكنّه، من ناحيةٍ ثانية، يرمي الى تفويتِ الفرصةِ على العهد حتى يفشلَ في إنجازِ ما وردَ في خطابِ القَسَم، وفي منطوق البيان الوزاري، لجهةِ تنفيذِ القراراتِ الدوليّة، ومقرّراتِ اتّفاق وقفِ إطلاق النّار، ودستورِ الطّائف. ومعنى ذلك أنّ المشارِكين في الحكومة من أهلِ السّلاح، ومن خلالِ نهجِهم المُعوَجّ قَصدًا، ودفاعًا عن استمرارِ وجودِ سلاحِهم غيرِ المشروع، ينحرون الدولةَ من الدّاخل، للإجهازِ عليها من دون تردّد; فلا ثقةَ، إذًا، بوعودِهم بعدمِ التّعطيل، وبعدمِ نَصبِ الأفخاخِ في طريقِ التّصحيح، وصيانةِ الدولة، وفي تحقيقِ خلاصِ الناس.

أمّا أصحابُ الدولة، من رئيسِ البلاد، الى الحكومةِ، والى المُشارِكين فيها من السياديّين، والى الأحزابِ الموالية للحكم، فإمّا أن يكونوا ضعفاءَ متهاوِنين يتركون حَيطَ الدولةِ واطِيًا، لينطَّ فوقَه مُستَثمِرو الضّعف، ويفكِّكوا مشاريعَ النّهوضِ، ويُجهضوا التَّوقَ للانتقالِ الى مرحلة التّعافي من الأكفانِ التي تنزفُ رمادًا، ومواسمَ أَلْغام، ومن الجراحِ التي تغوصُ في جسدِ الوطن، ومن أنيابِ التفلّتِ الذي لم يُنتِجْ إلّا قُبورًا مفتوحة… وكلُّ ذلك لتبقى العتمةُ تنهشُ أملَ الناس; وإمّا أن تستفيقَ الجرأةُ في سلوكِهم، والمجابهةُ في أدائِهم، وأن يتصالحوا مع ما وعدوا به، مهما كان الثّمن، فالضّعفُ والتّخاذلُ، في يومِنا الحالي، هما من الذّنوبِ الكبيرة، بما يحملان من خطرٍ مُحَتَّمٍ على الكيان، ومن عودةٍ أكيدةٍ لشريعةِ الغاب، ومن سيطرةٍ مرفوضةٍ للمفتونين بشهوةِ السّكاكين، ومن تنفيذٍ لقرارِ الجلّادِ بتحويلِ البلاد الى رُفات…

إنّ الشّعبَ يرفضُ، وسيرفضُ دائمًا، ابتلاعَ المُسكِّنات بالتّصريحاتِ والكلام، فقد حان الوقتُ لتغييرِ قواعدِ اللّعبة، بانتهاز الفرصةِ السّانحةِ، عربيًّا ودوليًّا، لتجديدِ صلاحيّة المواجهة، وصيانة إرادة الشّعب، وسَحبِ الامتيازِ من الذين زجّوا البلدَ في جهنّم… إنّ الغايةَ من انتهازِ الفرصةِ اليتيمة هي لتحقيقِ اصطباغِ صورةِ النّسيجِ الوطنيّ بألوانِ العَلَمِ اللبنانيّ، وحدَها. ونقطة عالسّطر…