كتب طوني عطية في “نداء الوطن”:
دخل لبنان مدار الانتخابات البلدية والاختيارية بعد ثلاثة أعوام من تأجيلها. إنّه الاختبار الأوّل للسلطة المحليّة وخلفها المركزية، عقب سلسلة أحداث ومتغيّرات من العيار الثقيل. قبل السابع من “طوفان الأقصى”، كان الهمّ البلديّ، يتمحور حول مواجهة الأعباء الاقتصادية والمالية. أما اليوم، فأُرفق هذا الهاجس بمعايير جديدة وتساؤلات صعبة لم تكن مطروحة في المرحلة السابقة، أبرزها: كيف سيتعامل المجتمع الدولي وتحديداً الأوروبي مع هذا الاستحقاق؟ ماذا عن المساعدات الماديّة والإنمائية التي تُعوّل عليها البلديات لـ “بلّ ريقها” بعد سنوات عجاف؟ بمعنى أدقّ وأوضح: هل سترتبط بالهوية السياسية للمجالس البلدية المنتخبة، لا سيّما في المناطق والبيئات المحسوبة على الثنائي “أمل” و”حزب الله”؟
مع إصدار الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمراً رئاسيّاً يقضي بـ “تعليق تمويل كلّ المشاريع المموّلة من وكالة التنمية الأميركية (USAID) حول العالم، والتي أنفقت في لبنان (وضمناً البلديات) منذ 2023 نحو 123 مليون دولار أميركي، هل يملأ الاتحاد الأوروبي هذا الفراغ التنموي، في ظلّ حذر عربي خليجي من أي مساعدات قبل الولوج بالإصلاحات السياسية والاقتصادية المطلوبة؟
في حديث مع دبلوماسي أوروبي لصيق بالواقع اللبناني، أشار إلى وجود مسألتين يتمّ النقاش والحوار حولهما داخل الاتحاد الأوروبي. الأولى، شبه محسومة وفق المعطيات الحالية، ألا وهي، أن الدول الأعضاء وخصوصاً المانحة منها، لن تتعاون مع البلديات التي سيرأسها (حسب نتائج الانتخابات) رؤساء ينتمون إلى “حزب الله”، أو تلك التي تجاهر بانتمائها إلى “الحزب” أو الانضمام إلى اتحاداته، فالقوانين الأوروبيّة تُجرّم أي تعامل معه كونه “تنظيماً إرهابياً” وفق التصنيف الأوروبي.
أما المسألة الثانية، فترتبط بنوعية المساهمات، أي أنها ستميّز بين مساعدات عينية (غذائية ، طبيّة) يُمكن تقديمها للبلدات والقرى المحتاجة، بغض النظر عن الانتماء السياسي لمجالسها البلدية من جهة، وبين الهبات التي لها علاقة بالتنمية المستدامة (بنى تحتية، مشاريع طاقة، مستشفيات…) من جهة أخرى.
هذه الفئة ستكون تحت رادار أوروبي صارم. ولدى سؤاله عن البلديات المحسوبة على حركة “أمل”، يعتقد الدبلوماسي الأوروبي، أنّ العلاقة معها ستكون أسهل من الناحية السياسية، مع التشدّد والتركيز في آنٍ على الجانب الإصلاحي وتعزيز الشفافية، آملاً في السياق ذاته، أن تنتج الانتخابات المحلية قوى أهلية جديدة داخل البيئة الشيعية، لا علاقة لها بـ “الحزب” ولا بالفساد. وعما إذا كانت بلدان الاتحاد تتناغم في الموقف ذاته، لفت إلى أن الدول المانحة المهتمّة بالشأن اللبناني مثل إيطاليا وألمانيا والسويد وغيرها متشددة حيال هذه المسألة، لكنّه ألمح في المقابل، أن فرنسا قد تكون أكثر ليونة تجاه البلديات المحسوبة على “حزب الله”.
ومن النقاط المهمّة التي يشدّد عليها الدبلوماسي، هي أن تطبيق القرار الدولي الـ 1701 يقع في جانب منه على عاتق السلطات المحليّة لا سيما عبر الشرطة البلدية، المشار إليها في اتفاق وقف إطلاق النار وورقة الضمانات الأميركية، كقوى ميدانية إلى جانب القوات المسلّحة الشرعية المحدّدة بالجيش اللبناني، قوى الأمن الداخلي، الأمن العام وأمن الدولة. وبالتالي أي تعاون لعناصر الشرطة مع “حزب الله” أو انضوائهم في صفوفه، سينعكس سلباً على البلديات.
في الخلاصة، يُستشفّ من الأجواء الدبلوماسية الأوروبية، أن انتخابات السلطة المحلية لن يُنظر إليها من معيار إنمائي فقط، بل مشبوكة بشكلٍ كبيرٍ بالإطار السياسي المُراقب دوليّاً، لا سيّما في بلديات الجنوب والبقاع.
بات واضحاً أن المهمة التي تنكّبتها اللجنة الخماسية التي تضم الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا ومصر والمملكة العربية السعودية وقطر قد أدت قسطها للبنان، وهي وإن كانت ما زالت مستمرة بالحد الأدنى، فلمعالجة المسائل الطارئة على غرار عودة الحرب والعنف بشكل خطر، فيما تستمر بالمواكبة من بعيد نسبياً في ظل الوقف الهش لإطلاق النار.
والواقع أن من يتولى المواكبة اللصيقة والتنسيق الدائم يتمثل بالثنائي الأميركي – السعودي والذي انضم إليه الفرنسي بعد نوع من التردّد، لكن يبدو أن الرئيس إيمانويل ماكرون اقتنع بأن الرئيس دونالد ترامب يختلف كلياً عن سلفه جو يايدن، وأنه عازم على الاندفاع بقوة نحو حالة تطبيع في الشرق الأوسط يسميها سلاماً دائماً، لا سيما مع انحسار الروس عن الواجهة والاكتفاء بدور أقل طموحاً تحت المظلة الأميركية من خلال قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية في سوريا، فضلاً عن وجود قرار أميركي بتحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة وصولاً إلى إعادة الجمهورية الإسلامية إلى حدود إيران، وإن احتفظت بعلاقات وثيقة مع بعض المكونات في دول المنطقة، لكن الرهان على “تصدير الثورة” والاحتفاظ بالأذرع العسكرية لم يعد وارداً، سواء عبرالتخلي عنه بالحسنى نتيجة الضغوط القاسية أو بالقوة نتيجة ضربة عسكرية واسعة وشديدة تتولاها على الأرجح إسرائيل بدعم وغطاء أميركيين.
وهذا يعني، بحسب مصادر دبلوماسية أوروبية، أن الضربات على الحوثيين في اليمن إلى تصاعد تدريجي، ما سيدفعهم إلى الخيار إما الاستمرار في افتعال المشكلات الأمنية وما تعنيه من ثمن باهظ على عاتقهم، لا سيما مع وجود نوايا بفرض حصار محكم على مناطق سيطرتهم وعزلهم أكثر عن إيران، وإما التسليم بحل يحافظون فيه على نفوذ معين ضمن حل شامل للأزمة اليمنية.
أما العراق، فيبدو في حالة من الحيرة والإرباك في كيفية التعاطي مع التحديات المستجدة، وإن كان رئيس حكومته محمد شياع السوداني يميل إلى إبقاء العلاقة مع واشنطن في حالة جيدة وتالياً إلى عدم الاستعجال في رحيل القوات الأميركية من العراق، وبخاصة على خلفية عودة المكوّن السني إلى السلطة في سوريا، وتحركات أقل خجلاً لتنظيم داعش في البلدين، فيما الحشد الشعبي المرتبط إلى حدٍ كبير بإيران يتخذ موقفاً حذراً من التطورات ويبحث عن كيفية تشريع حضوره في صلب الدولة أكثر.
أين لبنان من هذا المشهد؟
يشكل لبنان جزءاً من الرؤية التي كوّنها الرئيس ترامب للشرق الأوسط، بل إنه يمثل حجراً أساسياً في اللعبة الإقليمية بالنسبة لإدارته، فهو بصريح العبارة يريد سلاماً شاملاً مع إسرائيل، ويراهن على انضمام المزيد من الدول إلى هذا الخيار، بعد مصر والأردن، بالإضافة إلى دولة الإمارات والبحرين والمغرب وبنسبة معينة السودان، علماً أن دولاً أخرى لا تبدي ممانعة لكنها تربط الأمر بحل الدولتين على غرار السعودية. ولذلك قد ينحى الرئيس الأميركي بعد “إراحة” إسرائيل، إلى دفعها للقبول بصيغة معينة تمثل حالة وسطية بين السلطة الفلسطينية الحالية والدولة.
وفي رأي الأوساط الدبلوماسية الأوروبية، فإن إسرائيل باقية في النقاط الحدودية الخمس وستستمر في غاراتها وعملياتها العسكرية مستهدفة “حزب الله” وترسانته ومخازنه، وربما لاحقاً قياداته وكوادره، فضلاً عن مسارب تهريب السلاح إليه، ولن تتراجع إلا عندما يتخلى عن سلاحه، وهذا الشرط هو نفسه الذي تطرحه الدول الغربية والعربية من منظار آخر للإفراج عن الأموال والمساعدات الخاصة بالإعمار، انطلاقاً من أن المملكة العربية السعودية تستنكر الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وغزة وترفض أي تفاوض أو تطبيع خارج إطار حل الدولتين.
وعلى خط مواز، يقول مسؤول إقليمي في إحدى المؤسسات المانحة، إن عدم إمساك الحكومة اللبنانية بقرار الحرب والسلم عبر حصر السلاح بأيدي قواها العسكرية والأمنية الذاتية، يعني أن كل بيت أو محل أو مدرسة أو معبد آيل للدمار مجدداً، وهذا من الأسباب التي تدفع إلى التحفظ في تقديم المساعدات الإعمارية، ولذلك، ومن خلال الاتصالات مع كبار المسؤولين اللبنانيين، يتضح أن هؤلاء المسؤولين يدركون الواقع تماماً ويسعون إلى إبداء حسن النية حيثما أمكنهم ذلك، علماً أن ذلك ليس كافياً.
في أي حال، لعل وزير الخارجية يوسف رجّي هو الأعلم بهذا الواقع من خلال الاتصالات الكثيفة التي يتولاها خارجياً ودبلوماسياً، وقد لاحظ مسؤولون ودبلوماسيون أوروبيون تبدل اللغة الدبلوماسية اللبنانية التقليدية لتصبح أكثر وضوحاً وتماسكاً وتعبيراً عن الاستقلال الوطني، علماً أن المراهنة على محاولة عزل الوزير رجّي أو الإيحاء بأنه يغرد خارج السرب الحكومي قد فشلت، لأنه يعبّر عن مواقف مبدئية بديهية تتعلق بسيادة لبنان والمواقف المنطقية حيال إسرائيل، ومن الأكيد أن الرئيس العماد جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام راضيان عن أدائه ويواكبانه ويزودانه بالتوجيهات عند اللزوم، ولو كان لهما موقف آخر، لتصرّفا بشكل مغاير.