كتب عيسى يحيى في “نداء الوطن”:
حرّكت دعوة وزير الداخلية والبلديات الهيئات الناخبة المياه الراكدة واضعةً الجميع أمام استحقاقٍ طال تأجيله تحت وطأة الأزمات السياسية والاقتصادية، وبعد سنوات من الشلل والتمديد القسري، تأتي الانتخابات لتعيد الحيوية إلى الساحة المحلية، وتسابق الزمن في صوغ التحالفات.
تعكس الانتخابات البلدية في العديد من المناطق اللبنانية طبيعة الانقسام السياسي والاصطفافات التقليدية، وجرت العادة أن يكون الاستحقاق مدخلاً وصورة مصغرة عن المشهد الكبير الذي يليه وهو الانتخابات النيابية. وفيما كان يشكل البقاع الشمالي ولا يزال تركيبةً متنوعة، تتداخل فيها السياسة والعائلية والمذهبية، وتشهد بلداته معارك طاحنة تكون مرآةً للتحالفات والأصوات المعارضة التي تخرج عن إرادة «الثنائي»، يبدو المشهد مختلفاً هذه المرّة، بعد التحولات التي حصلت جراء الحرب الأخيرة، وتداعيات سقوط النظام السوري، والتصويب على أن الطائفة الشيعية هي المستهدفة، حيث يسود التوافق كخيار شبه وحيد، نجح «حزب الله» في إرساء معادلته، من دون أن يكون بالضرورة نتيجة تقارب في الرؤى، بقدر ما هو انعكاس للواقع السياسي القائم.
ارتبط وجود المعارضة الشيعية في البقاع بمدينة بعلبك، فكانت المعركة البلدية هي البيدر الذي سيطابق حساباته مع حقل غير الموالين لـ»الثنائي الشيعي»، وكان تقارب الأصوات على مدى دورات متتالية منذ العام 2004 بين اللائحتين، مادة دسمة توضع على مشرحة إيصال الرسالة للداخل والخارج مفادها أن البيئة الشيعية تتفق في الأمور الكبرى كالمقاومة وتختلف في سياسة الإنماء وإدارة السلطات المحلية التي يجب أن تبقى خارج الحسابات الحزبية. ومع التحولات التي حصلت، وحيث تمثل بعلبك إحدى الدوائر الكبرى في المنطقة، فرض «حزب الله» إيقاعاً خاصاً للاستحقاق، ساعياً إلى تشكيل لوائح توافقية مع العائلات عنوانهااختيار الأفضل منها، على أن يبقى معيار تقسيم ولايات المجالس البلدية واتحاد البلديات كما كان سائداً من قبل.
هذا التوجه ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لاستراتيجية أوسع يتّبعها «الحزب»، تقوم على تفادي أي انقسامات داخل البيئة الشيعية، وفي الدوائر التي يمتلك فيها نفوذاً واسعاً، لاقاه إليها جزء من المعارضة التي تكاد أن تكون غائبة باستثناء بعض الشخصيات، فيما تعزو الأسباب إلى الحرص على عدم شق الصف أو إضعاف الحالة القائمة، فضلاً عن الظروف السياسية التي تجعل أي مواجهة غير ذات جدوى. وعليه أصبح من الثابت أن مدينة بعلبك وأغلب البلدات الشيعية ضمن محافظة بعلبك الهرمل، تتجه نحو تزكية اللوائح بالتوافق بين الثنائي وحلفائه التقليديين والعائلات.
الأمر نفسه ينطبق على البلدات التي يتشارك فيها «الثنائي» المجالس البلدية مع الطوائف المسيحية والسنّة، حيث تسير الأمور نحو توافق مشروط، يحافظ فيه «الثنائي» على حصته وتمثيله، بما فيها رئاسة المجالس البلدية وعدد الأعضاء، مع الحرص على إنفاذ تفاهمات مع شخصيات غير مستفزة وتلقى قبولاً ورواجاً عند البيئة الشيعية.
على ضفة الواقع السني وتيار «المستقبل»، ورغم حالات التراجع التي مرّ بها، وكان خلالها بمنأى عن خوض الاستحقاق النيابي عام 2022، فإنه يبدو حاضراً في الانتخابات البلدية والاختيارية هذا العام بعد العودة عن تعليق العمل السياسي، هذه العودة التي أتت بالتكافل والتضامن مع دار الفتوى في بعلبك الهرمل، حيث ستكون إدارة الملف البلدي بالتنسيق بين الطرفين، وصولاً إلى إبرام تفاهمات مع مختلف المكونات والأطراف سواء الشيعية، أو ضمن البلدات السنية، دون الدخول في لعبة تشكيل اللوائح وخوض معارك انتخابية، وذلك كله في سبيل محاولات التيار الحفاظ على حضوره في ظل المشهد السياسي المتغير.
في المحصلة، تبدو الانتخابات البلدية المقبلة في بعلبك الهرمل محكومة بتوازنات الضرورة، حيث يحضر التوافق كعنوان رئيسي في مناطق نفوذ «حزب الله»، فيما تفرض العائلات كلمتها في بلداتها وقراها، ويبقى التحدي الحقيقي في قدرة المجالس المنتخبة على كسر حلقة الجمود الإنمائي وتحقيق الحد الأدنى من تطلعات المواطنين.