كتب إيلي الياس في “نداء الوطن”:
في ضوء التحوّلات المتسارعة التي تشهدها الساحة السورية، يبرز أمام لبنان استحقاق تاريخي يتمثّل في إعادة صياغة علاقته بسوريا على أسس جديدة، تقطع مع مرحلة طويلة من الهيمنة والتبعية التي فرضها نظام الأسد منذ سبعينات القرن الماضي، وتؤسس لعلاقة ندية قائمة على الاحترام المتبادل وحسن الجوار. إن انتظار تبلور موقف السلطة السورية الجديدة حيال لبنان لا يجدي نفعاً، بل إن المطلوب هو المبادرة على قاعدة الاحترام المتبادل، مع جهوزية لمعالجة الملفات الشائكة، من ملف النزوح، إلى ملف المعتقلين والمفقودين في سجون النظام السابق، وصولاً إلى ترسيم الحدود البرية والبحرية، والاتفاقيات التجارية.
لقد شكّلت العلاقات اللبنانية السورية لعقود مرآة لاختلال التوازن بين الدولتين. فمنذ عهد حافظ الأسد، سعى النظام السوري إلى إخضاع لبنان لسياساته، متذرّعاً بشعارات الأخوّة والقومية، بينما كان يمارس على الأرض سياسة الوصاية الأمنية والاقتصادية. فالاتفاقيات الثنائية التي وُقّعت بعد الطائف، وعلى رأسها اتفاقية التعاون والتنسيق، غطّت تغوّل النظام في القرار اللبناني، ومهّدت لتدخّله المباشر في الشؤون الداخلية، وصولاً إلى التحكّم في تعيين الرؤساء وتوجيه السياسات.
هذه الهيمنة لم تكن وليدة مرحلة ما بعد الحرب فقط، بل تعود جذورها إلى ما قبل الانفصال الجمركي عام 1950، حين سعت دمشق إلى فرض وحدة اقتصادية وسياسية تهدّد الكيان اللبناني واستقلاله المالي. وقد رفض لبنان يومها، رغم المخاوف الاقتصادية، الإملاءات السورية، وفضّل تحمّل الكلفة الباهظة على أن يرتهن لسياسات تتناقض مع خياراته الليبرالية وهويته السيادية. كان ذلك تعبيراً مبكراً عن رفض لبنان أن يكون تابعاً، وحرصاً على ترسيخ دوره كمساحة حرّة في قلب الشرق.
اليوم، وبعد أن تشكّلت سلطة جديدة في سوريا، تفرض المتغيّرات على لبنان إعادة تموضع دبلوماسي حذر، لا ينزلق إلى إعادة التطبيع المجاني، ولا يكرّس القطيعة العبثية، بل يسعى إلى بناء علاقة جديدة تحترم سيادة الدولة اللبنانية وتمنع أي شكل من أشكال الوصاية، سياسية كانت أم أمنية أم اقتصادية.
إن مستقبل العلاقات مع سوريا يجب أن يُبنى على أسس واضحة: لا عودة إلى زمن التبعية، ولا إعادة إنتاج لاتفاقيات صيغت تحت الضغط. المطلوب اليوم هو التأسيس لعلاقة متكافئة تحترم الحدود والقرار الوطني، وتُوظّف الروابط التاريخية في خدمة المصالح المشتركة، لا في تكريس التفوق السوري الديمغرافي والجغرافي.
لقد دفع لبنان ثمناً باهظاً من جرّاء رضوخه لمنطق “الشقيق الأكبر”. والمطلوب الآن استثمار لحظة التغيير في دمشق لتكريس معادلة جديدة: شراكة لا وصاية، تعاون لا تبعية، واحترام لا هيمنة.