كتب زياد سامي عيتاني في اللواء:
إكتسبت زيارة رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام إلى سوريا أهمية كبرى، باعتبارها تؤسس لعلاقات قوية ومتينة بين البلدين من الندّ إلى الندّ، على قاعدة دولتين سيدتين في ظل الاحترام المتبادل، بعد تصحيح الخلل الكبير الذي إكتنفها خلال حكم الأسد الأب والإبن.
وهذه الزيارة التي هي الأولى من نوعها على هذا المستوى منذ انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للبنان وتشكيل حكومة جديدة برئاسة سلام، من المفترض أن تبحث بالملفات العالقة بين البلدين، حيث أن جدول أعمالها حافل بالقضايا العالقة، أبرزها ترسيم الحدود البرية والبحرية، وضبط الحدود، ومنع التهريب، وتشديد الأمن على جميع المعابر الحدودية وإغلاق المعابر غير الشرعية، وقضية النازحين السوريين، وضرورة عودتهم إلى دمشق بعد استقرار الوضع الأمني.
يُذكر أن الرئيس عون وفي خطابه الأول أمام البرلمان دعا إلى حوار جادّ مع دمشق بشأن القضايا العالقة، وعلى رأسها ملف ترسيم الحدود البرية والبحرية، وشدّد على أهمية بناء علاقات صحية تخدم مصالح الشعبين، بعيدا عن الأجندات التي أثقلت كاهل البلدين لسنوات. وفي المقابل، تلقّى عون إتصالاً من الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، هنّأه خلاله بتوليه منصب الرئاسة، وأبدى استعداد دمشق لمعالجة الملفات الشائكة وتعزيز التعاون الثنائي، بما يحقق استقرار المنطقة، وذلك في محاولة لتقديم إشارات انفتاح، في ظل أولويات القيادة السورية الرامية إلى إعادة ضبط الداخل السوري ومكافحة فلول النظام السابق والمهرّبين، وهي ملفات تتقاطع مباشرة مع هواجس الدولة اللبنانية.
وتأتي الزيارة في وقت تشهد فيه المنطقة تحولات كبرى، جراء انكفاء المشروع الإيراني في المنطقة بفعل نتائج هجوم 7 (أكتوبر) العكسية ورحيل النظام السوري حدثان، مما يمكن أن يشكّل دافعاً قوياً لإعادة بناء نسق جديد في مسار العلاقات بين لبنان وسوريا.
من المعروف أن كل من سوريا ولبنان يواجهان جملة من التحديات المشتركة، متداخلة جغرافيا وسياسيا واقتصاديا، وتجعل من أي محاولة لإعادة تطبيع العلاقات بين البلدين عملية معقّدة تتجاوز الطابع الثنائي التقليدي، وتمسّ الأمن الإقليمي بمجمله.
على صعيد قضية الترسيم، فإنها تُعدّ من أبرز القضايا العالقة بين البلدين ومحورا للنزاع منذ عقود، حيث أن لهذه القضية بُعدين رئيسيين، أولهما تقني يتمثل في الخلاف بشأن مقاربة ملف الحدود البرية والبحرية، إذ كان يرفض الجانب السوري الاعتراف بالخطوط اللبنانية المعتمدة، مما يجعل حلّ النزاع مرهونا بمفاوضات معقّدة ووساطة دولية. والبُعد الآخر سياسي، ويرتبط بادّعاءات النظام السوري التاريخية، التي تزعم أن لبنان جزء من سوريا، وأن (الشعبين في البلدين يشكّلان وحدة واحدة) هذا التصور يعكس مقاربة سياسية تاريخية لدى الأنظمة السورية منذ الاستقلال، إذ يتم التعامل مع لبنان كدولة تابعة وليست ندّا مستقلا، ما كان يدفعها الى تجنّب ترسيم الحدود وتلك النظرة السياسية.
إلّا أنه ومنذ إسقاط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول الماضي تعمل الإدارة السورية الجديدة على ضبط الأوضاع الأمنية في البلاد، وبسط السيطرة على الحدود مع لبنان، بما يشمل ملاحقة مهرّبي المخدرات وفلول النظام السابق. وتعزز هذا التوجه في ضوء التوتر الأمني الذي شهدته الحدود السورية – اللبنانية في منتصف آذار الماضي. يشار في هذا السياق أن الحدود اللبنانية – السورية تتسم بتداخل جغرافي معقّد، إذ تتكوّن من جبال وأودية وسهول تخلو في الغالب من علامات واضحة تحدد الخط الفاصل بين البلدين اللذين يرتبطان بستة معابر برية تمتد على طول 375 كيلومترا.
كما يبرز ملف اللاجئين السوريين باعتباره إحدى أبرز القضايا الحسّاسة التي تؤرق لبنان، إذ يعيش في لبنان أكثر من 1.5 مليون لاجئ سوري، مما يضع ضغطا كبيرا على الموارد الاقتصادية والبنية التحتية، إذ يمثل ملف اللاجئين السوريين تحدّياً إنسانياً واجتماعياً وسياسياً في آن واحد، حيث تتعالى الأصوات اللبنانية المطالبة بإعادتهم إلى سوريا.
ويبرز أيضاً ملف المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية أو المعتقلين السوريين في لبنان كـ«جرح مفتوح يحتاج إلى معالجة فورية»، حيث أن هذه القضية لها أولوية قصوى وتستدعي التمييز بين المعتقلين السياسيين والمتهمين بجرائم جنائية.
وكان سلام قد أكد أمس الأول بعد وضع إكليل على نصب الشهداء في وسط بيروت في الذكرى الـ50 للحرب اللبنانية، أن «موضوع المخفيين اللبنانيين في السجون السورية سيكون من ضمن المباحثات خلال زيارته إلى دمشق»، وقال: «أتمنى أن أعود بأخبار طيبة عن المخفيين في سوريا وغداً أخبركم بالمزيد بشأن هذا الموضوع».
كل هذه الملفات الشائكة والمعقّدة تشكّل تحدّياً على نتائج زيارة نواف سلام إلى دمشق، ما يجعلها بداية لإختبار الضمانات الحقيقية لتلك النتائج، بعيدا عن التوظيف السياسي أو الابتزاز بالمصالح المتبادلة، خصوصة لجهة إعادة النظر في طبيعة العلاقات بين البلدين، الذي يستوجب أن تكون شاملة وعميقة تشمل الجوانب السياسية والاقتصادية والقضائية، من خلال إطلاق حوار جاد بشأن صياغة وثيقة أو إطار قانوني ينظم العلاقات المستقبلية بين البلدين، مع التركيز على حل القضايا الشائكة، بعد انتهاء دور المجلس الأعلى اللبناني – السوري الذي أنشئ كآلية للتعاون بين البلدين في ظل ظروف سياسية معينة، للعمل على تركيز تفعيل المؤسسات الدستورية في البلدين لضمان علاقات أكثر شفافية.