يعيش العرب راهناً أزمة وعي خانقة، أزمة وعي تكاد تؤدي إلى انتحار جماعي. نرى بوادر ذلك في العمليات الانتحارية التي تتكاثر، والتي ينم تكاثرها عن انتشار الوعي الذي يولّدها.
هناك انفصام في الشخصية العربية بين مفهومين للعيش أحدهما يرى ضرورة الخلافة والثاني يريد دولة عصرية.
المفهوم الأول، دولة الخلافة، يعبّر عن مرحلة مضت وانقضى أمرها. نتائجها السياسية لم تعد تلزم، أسلوب العيش الذي عبّرت عنه في ما مضى لم يعد مناسباً للعصر الراهن ولا لازماً للمسلمين العرب، ولا للمسلمين في جميع أنحاء العالم. الخلافة كشكل للدولة ألغاه المسلمون عملياً منذ أكثر من ألف عام، وواقعياً منذ خمسماية عام. أول من ألغى الخلافة هم السلاطين العثمانيون. فعل ذلك السلطان سليم الأول بعد معركة مرج دابق حين ألغى الخلافة العباسية الشكلية التي كان يتبناها المماليك. وفعل ذلك أيضاً كمال أتاتورك حين ألغى لقباً للخلافة تبناه السلاطين العثمانيون في معاهدة كوجك كيناوجي، عام 1774، كتسوية اقترحها الإنكليز للحفاظ الشكلي على سلطة دينية للعثمانيين على القوقازيين الذين احتلت بلادهم فعلياً الإمبراطورية الروسية بعد انتصاراتهم التي أدت إلى تلك المعاهدة.
تأسس هذا المفهوم الأول على الفتوحات التي أدت إلى تحقيق الانتصارات العسكرية وما تجر إليه من مغانم وأسلاب تتعلق بالأموال المنقولة من تجارات (ذهب وفضة) وأراضٍ فُتحت عنوة (الأراضي التي فُتحت سلماً تُركت لأهلها، أما الأراضي والمدن التي فُتحت عنوة فقد آلت إلى المسلمين). في هذا الإطار كانت مهمة الدولة الأساسية هي الفتح؛ وفي مرحلة الاستقرار صارت المهمة الدفاع وحفظ الأمن، لا علاقة لها بالاقتصاد إلا ما يتعلق بالجباية لتمويل بيت المال لدفع رواتب الجنود تجنباً لما قد يثيره هؤلاء من قلاقل في حال تأخرت رواتبهم. والويل للخليفة الذي يتأخر أو يتمنع عن الدفع. وهذا كان شأن معظم خلفاء بني العباس في الفترة التي مارسوا فيها الحكم فعلياً: بعد هذه الفترة أصبحوا رموزاً دينية وحسب، رموزاً دينية لا سياسية. لم يبق لهم علاقة جدية بالسلطة والحكم والسياسة.
يتعلق المفهوم الثاني للعيش بالدولة العصرية التي لا يمكن أن تكون دولة الخلافة لأنها لا يمكن أن تتموّل من الأسلاب والمغانم، ولا أن تقتصر مهامها على الدفاع وحفظ الأمن في الداخل والخارج. في هذه الدولة الثانية تبنى الدولة على اقتصاد سياسي للإنتاج، خاصة الإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري. وذلك لا يحدث إلا بالعمل واكتساب التكنولوجيا الحديثة، والعقلية العلمية الحديثة التي تنتج هذه التكنولوجيا. تغيّرت مفاهيم وأسس وقوانين ودساتير الدولة الحديثة. لم يعد ممكناً سوى استيراد أشكالها الحديثة من الغرب. وهذا أمر يتطلب تبني ثقافة الغرب وأفكاره الفلسفية والعلمية والتكنولوجية. وبعض المسلمين، وربما أكثرهم، لا يرون إمكان العيش مع هذه الثقافة في القرنين العشرين والواحد والعشرين، مع أنهم رحّبوا بها في القرن التاسع عشر على أن تبقى الأمور الثقافية الدينية على حالها بينما يتم استيعاب الإنجازات الدستورية؛ وكل ذلك تحت شعار الإصلاح الذي تبناه أمثال خير الدين التونسي وابن باديس الجزائري ومحمد عبده المصري والأفغاني، وحتى رشيد رضا في مرحلته الأولى حين كان تلميذ محمد عبده وقبل أن يصبح امتداداً فكرياً للوهابية. وكان الوطن العربي سائراً في طريق الإصلاح السياسي والعمل والإنتاج إلى أن ساد النمط البترولي في منتصف القرن العشرين مؤذناً بحيازة الثروة من دون العمل والإنتاج. ثروة من باطن، من الله الذي منّ بها على المؤمنين، وأخذت إلى طريقة العيش الممكنة فقط بالاستهلاك المجرد عن العمل والإنتاج، وصرف ما تبقى من هذه الثروة المجانية على الدعوة الدينية الأصولية. وهذا الأمر لا يحتاج إلى عاملين ومخططين ومهندسين وإعمار وتشييد؛ بل يمكن استيراد الأيدي العاملة من أجل ذلك، مع انصراف الأيدي العاملة المحلية إلى العمل الدعوي، وهو عمل ذهني لا لزوم له أصلاً، وخاصة وأن الدين قد اكتمل في خطبة الوداع.
أتت الهزيمة لتكرّس الاتجاه الدعوي في مواجهة إمبريالية متقدمة، وإسرائيل مدججة، ودول استبداد حليفة. تتحالف الهزيمة مع مفهوم فاسد مفوَّت للدولة وتدخل في نفق الجهل المقدس والاتكالية الاجتماعية والفروسية الدينية؛ بالاستناد إلى مجتمع ساهمت في هشاشته وإضعافه وتمزيقه. وما دخلت الأصولية الدينية إلى بلد إلا وعرّضته لحرب أهلية. كما أن النفط ما اكتشف في بلد من بلدان العالم الثالث إلا وأدى إلى حروب أهلية لا تتوقف. وهذه حال البلدان العربية حيث تبدو البلدان النفطية مستقرة؛ لكنها تحمي استقرارها بالحروب الأهلية المستمرة في البلدان العربية غير النفطية.. بعد أن جرى إمدادها ثقافياً بالدعوة الدينية؛ لا ضد إسرائيل، بل ضد الأقليات الدينية، وخاصة ضد الأقليات الإسلامية السنية التي ترفض هذا الاتجاه، والتي ما تزال تتبنى اتجاهاً ليبرالياً غربياً.
هكذا صار النموذج الأول للعيش (اجتماعياً) وللخلافة (سياسياً) هو السائد. هو نموذج ماضوي، يعيش أصحابه في الماضي، ويرفضون الحاضر، ويعجزون عن بناء المستقبل. يتجهون إلى الانتحار الفردي ثم الجماعي، ويعانون من انفصام في الشخصية الفردية والجماعية.
نموذج الدولة المبني على الفتوحات لم يعد يصلح لأن التاريخ قد تغيّر؛ والتاريخ لا يعيد نفسه، والنتائج المترتبة على فرض التكرار تقود إلى الهزيمة، بل إلى الهزائم المتتالية. إن منطق الإسلام السياسي يقود حتماً إلى الانفصام، فإلى الانتحار. ذلك هو حاصل الدمج بين الهزيمة والانفصام. هو الوعي السائد حتى لدى الذين لا ينتمون إلى داعش وأخواتها، وحتى لدى الذين يرفضون داعش أو يقاتلون ضدها. في ذهن هؤلاء نموذج ماضوي عن الدولة وعن السياسة. يعيشون في الماضي الذي هو بطبيعة الأمر استحالة لا تتكرر، ولا يمكن أن تتكرر؛ وإذا تكررت، فإنها تقود إلى مزيد من الهزائم والانفصام.
يقاتل الإسلاميون في سبيل ماضٍ مستحيل، وهم يحاولون التعويض في غزة وعرسال وطرابلس والموصل والمناطق الفاصلة بين سوريا والعراق، تعويضاً عن ذلك. يحاولون إعادة الاعتبار للإخوان المسلمين بعد أن جرى إسقاطهم في مصر. وكان ذلك ضربة قاضية لهم. لم تتأخر إسرائيل في غزة حيث رأت فرصة تاريخية لشن حرب إبادة ضد شعب فلسطين. صمود أهل غزة لا يمكن تصنيفه انتصاراً لهم ولا لفلسطين ولا للعرب.
لن يكون النصر ممكناً إلا عن طريق التنمية، وهي باختصار تحفيز الصناعة والزراعة وبناء مجتمع (مجتمعات) متماسكة، والعمل على تطوير الجامعة العربية لتصير اتحاداً فيدرالياً يحافظ على خصوصيات الأقطار واستقلالها. كل أشكال المقاومة حتى الآن منذ المقاومة الفلسطينية تبنت أساليب الغزو المأخوذة من مراحل الغزو والفتوحات. لم يعد ذلك ممكنا.
ولم يعد الوعي المرتبط بهذه الفتوحات ممكناً. وهذا في أساس الأزمة. النصر مرهون بقدرتنا على العمل والإنتاج، بإنشاء دول قائمة على الإنتاج؛ بينما دول الفتح قامت على الاستهلاك. بالإنتاج نصنع مجتمعات متماسكة. وعندما تتماسك مجتمعاتنا ستبدأ إسرائيل بالزوال.