Site icon IMLebanon

أصدقاء أميركا

لم يعد لأميركا أعداء في المنطقة إلا «الإرهاب». طوت إدارة باراك أوباما كل الملفات السابقة للسياسة الخارجية الأميركية الصاخبة لا سيما في مرحلة جورج بوش الابن. لا ادعاءات عن نشر الديموقراطية ومخاطر الدكتاتوريات، ولا طبعاً الاستنفار في وجه «أسلحة الدمار الشامل». سلكت المفاوضات بخصوص الملف النووي الإيراني والملف الكيماوي السوري طريقها إلى حلول واقعية.

تغيّرت أميركا وتغيّرت المنطقة بعملية جدلية تفاعلية، لكن الصورة الواقعية تدل على إنجاز أميركا لمعظم أهدافها وليس شعاراتها. المنظومة السياسية التي تتصدر واجهة المنطقة الآن كلها من «أصدقاء أميركا»، أو على الأقل من الطامحين إلى إيجاد موقع لهم في خارطة النفوذ الأميركي أو الشراكة فيه. منذ نهاية الحرب الباردة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي لم يعد في العالم مشروع آخر نحيل عليه بصفته نموذجاً آخر أو قطباً أو مرجعية أو هوية لنظام عالمي مختلف، برغم كل الاعتراضات والتوترات في العلاقات الدولية. كان الشرق الأوسط هو المكان الوحيد في العالم الذي يجمع بين معارضته للعولمة الأميركية وبين هويته الثقافية الإسلامية. كان بذلك يعتقد أن الأيديولوجيا تستطيع تشكيل كتلة مصالح ضخمة وتكوين موقع فاعلية أكبر في العالم المعاصر. هذا الخيار بدأ بإيران ثم تركيا ثم العالم العربي، فإذا به يتراجع بسرعة تحت ضغط الوقائع المادية. في هذه المواجهة الاعتراضية التي تصدّرها «محور الممانعة» دفعت المنطقة ثمناً باهظاً لحال الفوضى، فلم تسقط «بالضربة القاضية» لكن تم استنزافها والتأسيس فيها لمشكلات مناقضة لإعادة تشكلها وتوحدها وحتى تعاونها. حافظت إيران على قوتها الذاتية، وحدَّت تركيا من طموحاتها وخسائرها، واجتازت مصر احتمالات الفوضى، وحافظ الخليج العربي من دون العراق واليمن على استقراره، لكن ذلك لا يعطي فرصة حقيقية بعد لـ«التشبيك والتعاون المشرقيين»، كما يتوقع البعض أو يتمنى. فليس هناك من «عمود فقري» يشد هذا الجسم «المشرقي» المفكك الآن مروراً بسوريا والعراق. لا العروبة بما هي مشروع سياسي جامع ولا الإسلام السياسي يمكن ان يشكلا هذا الاطار. هذه بلدان تعيش مخاضاً عسيراً للاحتفاظ بوحدتها من دون أن تكون الجيوش الوطنية هي النواة الصلبة المركزية لإعادة هذه الوحدة. نتحدث عن جيوش ولا نتحدث عن أشكال من التنظيمات العسكرية المسلحة التي صارت أقرب إلى الهويات الطائفية. ليس محتوماً طبعاً أن تسير هذه البلدان إلى التقسيم، شرط أن تتوافر لها نخب سياسية قادرة على صياغة أنظمة سياسية تؤمن حداً معقولاً من المشاركة بين المكونات الاجتماعية.

من العوائق الكبيرة أمام الاستقرار هو الذهاب حتى النهايات في حروب الغلبة المفتوحة وتأجيل البحث عن حلول سياسية بذريعة الصراعات الإقليمية والدولية. ونكاد نجزم أن زخم المواجهة مع الأميركيين قد تلاشى بالسياسة وهو قد انتهى منذ زمن بعيد في الاقتصاد. لا خيار غير خيار الليبرالية الاقتصادية، ولا ثروات طبيعية تستثمر خارج السوق العالمي الذي لم تعد له هوية قومية. هذا مسار انخرطت فيه كتل كبرى بحجم الصين وروسيا، وشكل المقدمات التي ساعدت «الحلف الأطلسي» أن يتوسع في الأمن من دون حروب كبرى. هناك أفق واحد لمنطقتنا يتطلب الخروج من صراع المحاور وإعادة التوازن إلى القوى الفاعلة خارج مشاريع الهيمنة. ساهم اختلال التوازن الجيوسياسي بتفجير الكثير من المشكلات الداخلية، وكان انهيار «النظام الإقليمي العربي» أمام دول الجوار مقدمة ذلك. قد يكون الرهان مجدداً على مصر ولو كانت مثقلة بمشكلات الماضي وتحديات الحاجات الاقتصادية والاجتماعية. المسألة هنا ليست دوراً حربياً لمصر ولا قيادة اقتصادية بل خيارات سياسية في جزء أساسي منها فك الاشتباك بين القوى الإقليمية المتنازعة والتعاون من أجل بيئة سياسية تتجاوز حالات التشرذم الطائفي والمذهبي الشوفينية القومية والهواجس الأمنية. قد لا تكون صيغة «جامعة الدول العربية» أداة فعالة لمثل هذا الدور، لكنها المدخل الضروري لخفض منسوب النزاعات العربية ولتدارك ما صار واقعاً غير طبيعي وهو قيادة دول الخليج العربي بسلطة النفط والمال لهذه المرحلة من دون إمكانات أساسية أخرى ومن دون رؤية. فالتعاون المصري الخليجي مهم وضروري حين يندرج في إعادة التوازن الإقليمي وليس في تشكيل محور نزاعي جديد. ومن البديهي أن يتقاطع الخطاب السياسي الآن بين الفاعلين على مسرح المنطقة عند «مكافحة الإرهاب» برغم الحاجة إلى بلورة رؤية اقتصادية اجتماعية ثقافية وليس مجرد تعاون أمني وأدوات أمنية. فلا يمكن حل مشكلات المنطقة من خلال هذه «التعمية» أو هذا «الاختزال» لقضايا تطورها وحاجات شعوبها بهدف واحد هو القضاء على الإرهاب. فللإرهاب كذلك وجه آخر كان وما يزال يتجدد وهو إرهاب الدول وترهيب الشعوب وكبح تطلعاتها.